المسيح في المجد هو الغرض
وهنا نسأل، كيف يكون المسيح مكتوباً في قلوب شعب الله وتظل هذه الكتابة واضحة وظاهرة، حتى أن هذه الجماعة تُظهر صفات المسيح لكل الناس؟
والإجابة على هذا السؤال يأتي بنا إلى الحق العظيم الثالث في هذا الإصحاح. فإن المسيح يُستعلن لكل الناس فقط متى كان المسيح الحي في المجد هو غرضنا. وهكذا يكتب الرسول "ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد" (ع18). فهناك قوة مُغيّرة في النظر إلى الرب في المجد. هذه القوة المغيرة ممكنة لجميع المؤمنين- لأصغر مؤمن كما لأقدم مؤمن، "نحن جميعاً"، فهي لا تعني ببساطة الرسل فقط الذين ينظرون مجد الرب "يتغيرون إلى تلك الصورة عينها" هذا التغيير لا يتأتى بمجهوداتنا ولا بمحاولاتنا أن نجتهد في التشبّه بالرب. ولا تتحصل بالسعي للتشبه بقديس تقي، بل بالنظر إلى مجد الرب. فليس هناك برقع على وجهه بل إذ ننظر إليه، ليس فقط كل برقع الظلمة ينقشع من قلوبنا، بل إننا نزداد في التشبّه به أدبياً لنكون مثله، فنتغير من مجد إلى مجد. وإذ نركز النظر على الرب الممجد فإننا نرتفع فوق كل الضعف والفشل الذي نجده في أنفسنا وكل الشر المحيط بنا فنكتشف ونُسَّر بكماله. وكما قالت عروس النشيد: "تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي".
من خلال هذه الرسالة يقدم لنا الرسول شيئاً من طعم هذا الثمر الحلو والشهي. ففي إصحاح5 عدد14 نقرأ أن "محبة المسيح تحصرنا". وهنا تُستحضر محبة المسيح كالدافع الحقيقي لكل خدمة، سواء للقديسين أو للخطأة. وكان أعظم تعبير لهذه المحبة هي موته، "ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه". ونقرأ أيضاً "أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها". وأمكن للرسول أن يقول عندما يستحضر هذه المحبة أمام النفس "لكي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام" إنه في ضوء كلمات الكتاب نستطيع أن نمتحن قلوبنا لنعرف الدوافع التي تحركنا في كل خدمتنا. أهي محبة المسيح التي تحصرنا أم هي محبة الذات؟ هل نحن نحيا لأنفسنا أم نحيا له، ولذلك فإننا مثله نرغب في نسيان الذات لكي نخدم الآخرين بالمحبة. وكما قال واحد: يا للأسف فكم نحن في عار لأننا نقوم بواجباتنا المسيحية، ونحاول أن نكون أمناء في دوافعنا بصفة عامة، ولكنها لا تصدر عن دوافع نابعة عن يقين متجدد بمحبة المسيح لنا.
وإذا نأتي إلى إصحاح8 وعدد9 نرى صفة حلوة أخرى عن المسيح، فنقرأ: "نعمة ربنا يسوع المسيح". وكان الرسول يطالب لأجل المؤمنين الفقراء من اليهود، فيستحث قديسي كورنثوس الأغنياء لكي يساهموا في أعوازهم. ففي عددي 6و7 يتحدث عن العطاء وكأنه "نعمة". ثم يضع أمامنا المسيح كمثال أعلى في عطاء النعمة. فقد كان غنياً، غنى لا يستقصى، ولكي يقوم بتسديد أعوازنا، فإنه لم يُعطِ فقط، ولكن أظهر نعمته هذه إذ أصبح فقيراً لكي يعطي "إنه لأجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره". إنه صار فقيراً عندما تجسد، وتبين فقره في مزود بيت لحم وبيته المتواضع في الناصرة، وفي أيام خدمته قال عن نفسه "للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه" (لوقا9: 58). إنه لكي يصل إلى المرأة الفقيرة الساقطة ولكي يمنح أعظم عطايا السماء لأذل فقراء الأرض، فقد صار فقيراً ومحتاجاً ووحيداً. وفي اللحظة التي أغنانا بينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية فقد أصبح هو نفسه أكثر فقراً حتى أنه طلب ماء لكي يشرب (يوحنا4: 7و14).
وإذا رجعنا إلى إصحاح10 وعدد1 فإننا نجد ثمراً أكثر إنعاشاً كان يميز حياة المسيح. أولاً نقرا عن "وداعة المسيح". كان الرسول يصحح روح المنافسة التي كانت بين قديسي كورنثوس حتى إن بعض الخدام الموهوبين كانوا يقيسون بعضهم ببعض وبذلك كانوا يمدحون أنفسهم. إنهم بهذا العمل كانوا يسلكون بحسب الجسد، وهم أكثر حرصاً بحسب الجسد، ويفتخرون بمواهبهم ويتحدثون عن أنفسهم ويفتخرون بأعمالهم ويحتقرون الرسول. ولكي يصحح الرسول هذه الأمور الباطلة والدفاع عن الذات فإنه وضع أمامهم وداعة المسيح الذي لم يدافع عن حقوقه أو يدافع عن نفسه، الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضاً. لقد افترى عليه رؤساء الكهنة، أما يسوع فقد كان ساكتاً. وعندما اتُهم كذباً أمام بيلاطس لم يجب بشيء، وعندما سخر منه هيرودس لم يجب بشيء. إنه من المفيد لنا عندما تواجهنا الافتراءات والإهانات ليتنا نتمسك بشيء من الروح التي أظهرها الرب- والوداعة التي رفض بها أن يؤكد على حقوقه أو يتمسّك بكرامته أو يدافع عن نفسه.
ثم يتحدث الرسول عن "لطف المسيح" أو حِلمه، إنها صفة حلوة أخرى ظهرت في مواجهة المقاومات. فالذين يسعون إلى طاعة كلمة الرب وحفظ الحق سرعان ما يواجهون المقاومات وتثار حولهم التساؤلات التي تدفعهم إلى النـزاع. ولكن "عبد الرب لا يجب أن يخاصم" بل يكون "مترفقاً (أو حليماً) بالجميع، صالحاً للتعليم، صبوراً على المشقات". إن حِلم المسيح يحدثنا عن الأسلوب والطريقة التي يتكلم بها. وغالباً ما يحدث معنا، حيث يكون دافعنا صحيحاً والمبادئ التي نستند عليها حق ولكننا نخسر كل شيء لأن أسلوبنا يفتقر إلى النعمة واللطف. لنتذكر كلمات المزمور المؤثرة "لطفك يعظمني" (مزمور18: 35). إن الشدة فينا تتحول إلى عنف وعندئذ نتصاغر في أعين الآخرين، لكن اللطف يعظمنا. إن العنف يولد عنف ولكن اللطف لا يقاوَم. و"ثمر الروح.. لطف".
وفي النهاية نأتي إلى إصحاح12 عدد9، فتقرأ عن "قوة المسيح". ويتحدث الرسول عن ضعف الجسد والإهانات والاحتياجات والإضطهادات والمصاعب. إنه تعلّم بالخبرة أن كل هذه الأشياء تصبح فقط فرصة لإظهار "قوة المسيح" لتحفظ المؤمن خلال التجارب وترفعه فوقها جميعاً. لهذا نتعلّم أنه مهما كانت التجربة فإن نعمته تكفينا وقوته تكمل في ضعفنا.
لهذا وعيوننا مثبتة على المسيح في المجد، فإننا نتذكر كمالات المسيح كما يستعرضه الرسول أمامنا في هذه الأمور:
"محبة المسيح"
"نعمة ربنا يسوع المسيح"
"وداعة المسيح"
"لطف (أو حِلم) المسيح"
ثم "قوة المسيح".
وإذ نتطلع إلى المسيح في المجد ونتعجب من هذه السمات الأدبية الحلوة التي نراها في أكمل صورة لها في المسيح. فإننا نجد أن ثمرته حلوة لحلقنا. وغالباً ما تترك في نفوسنا بطريقة لا شعورية شيئاً من صفات نعمته هذه، عندئذ نتغير إلى صورته.
لهذا فإن الروح القدس لا يكتب المسيح في القلب فقط لنصبح رسائل المسيح، ولكن إذ يجذب قلوبنا بالمسيح في المجد، فإنه يحولنا إلى صورته ويجعل هذه الكتابة واضحة لدى جميع الناس.
فأي شهادة عجيبة تكون إذا تطلع العالم ورأى جماعة صغيرة من شعب الرب بهذه الصفات "الوداعة" و"اللطف" و"القوة" التي تمكنهم أن يرتفعوا فوق كل الظروف.
ليتنا نتأكد بعمق أن فكر الله هو أن يكون شعبه رسالة المسيح لإظهار المسيح لجميع الناس، وذلك بأن نضع المسيح في المجد أمامنا كالغرض الوحيد.
- عدد الزيارات: 5105