Skip to main content

استير: من فتاة يتيمة إلى ملكة عظيمة

سفر استير

كل من يطالع سفر استير يلاحظ قبل كلّ شيء أن اسم "الله" غير مذكور فيه. فهو من هذه الناحية يشبه سفر نشيد الإنشاد إلى حدّ بعيد. ولكن على الرغم من ذلك يمكن القارئ أن يرى الله من خلال أسطر ذلك السفر. كما أنه يستطيع أن يرى سيادة الله وعنايته بأولاده وأن "كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده". (رومية 8: 28).

1- نشأتها ـ ولدت استير في بلاد فارس من أبوين كان قد سبيا أصلاً مع المسبيين إلى بابل.

لكنها في وقت مبكّر من حياتها خسرت والديها وأصبحت يتيمة، غير أن الله دبّر أن يتبنّاها ابن عمها مردخاي الذي كان يخاف الله (3: 2). والذي يخاف الله

لا خوف فيه

لا خوف منه

لا خوف عليه

فكان لها أباً وأماً ومربياً. فترعرعت الفتاة في كنفه على محبة الله ومخافته وطاعته.

ثمة كتابة على ناووس منسوبة إلى استير تشير إلى تقواها واتّكالها على الربّ ـ كتابة بشكل صلاة تقول:

أحمدك يا الله لأنّك خلقتني

أنا أعلم أن خطاياي تستوجب العقاب، لكنني أرجو الرحمة على يديك.

لأنني حينا أدعوك تكون معي. وحضرتك القدسية تحفظني من كل الشرور.

اللهمّ لا تطرحني من قدام وجهك الإلهي. فالذين تحبّهم لن يذوقوا عذابات الجحيم.

قدني أيها الآب الرحيم إلى حياة الحياة حتى أمتلئ من ثمار الفردوس السماوي.

استير

ولأنها أحبّت الله أحبّت شعبها وأبناء جلدتها أيضاً (8: 6) "لأن الذي يحبّ الله يجب أخاه أيضاً". وهذا يتّفق مع الوصيّة العظمى التي تقول: "تحبّ الربّ إلهك من كل قلبك.. وقريبك كنفسك". ولهذا نحن لا نستغرب لماذا باركها الله وجعلها بركةً للكثيرين.

2- اسمها ـ ذكر اسمها في سفرها 58 مرة، ونظراً للدور الذي لعبته في شوشن بل في كلّ الإمبراطورية التي كانت تعتبر من أعظم الإمبراطوريات في ذلك العصر.

في الواقع كان لها اسمان: هدسّة واستير. الأول هو اسمها العبراني ويعني الآس، وهو نبات جميل المنظر، عطري الرائحة، وأوراقه دائمة الاخضرار. والحق يقال أن حياة هذه الفتاة كانت كشذى الآس الفوّاح، أو على حدّ قول الرسول بولس، كانت "رائحة المسيح الذكية" تفوح منها. والثاني هو اسمها الفارسي الذي يعتقد بأن الملك أحشويرش خلعه عليها. ويعني نجم أو كوكب نسبة إلى كوكب الزهرة اللاّمع الوضاء. وبالفعل فقد لمع اسم فتاتنا استير كنجم ساطع في سماء العهد القديم. وقد استمدّت نور حياتها من مصدر كلّ نور والساكن في نور لا يدنى منه ـ الله.

غير أن أحدهم يقول أن اسم استير معناه "يختفي" لأنها كانت مختفية في بيت ولي أمرها لمدة من الزمن، وأيضاً لأنها أخفت جنسيتها إلى أن سنحت لها الفرصة لإظهارها. على كل حال، يمكننا القول أن استير كانت اسماً على مسمّى على غرار

إبراهيم الذي صار أباً لجمهور غفير

وسارة التي صارت أميرةً ورئيسة

وداود الذي صار حسب قلب الله

وبطرس الذي صخرة في إيمانه

وبرنابا الذي صار ابن التعزية والوعظ

ويسوع الذي صار مخلّصاً لجميع الناس

3- جمالها ـ نحن نعيش اليوم في عصر يقيم للجمال وزناً كبيراً.

فهناك صالونات للتجميل

وهناك ملكات للجمال

وهناك كعارض للجمال

وهناك طبّ للتجميل

وكأنّ الناس ألّهوا الجمال وعبدوه على نحو ما فعل الأقدمون حين عبدوا فينوس آلهة الحبّ والجمال. لكنّ هذا النوع من الجمال محصور في الجسم دون الروح، ولذا كان سبب شرّ ووبال على الكثيرين والكثيرات من الرجال والنساء. أما استير فكان جمالها جمال الروح أولاً ثم جمال الجسم، أي جمال القلب والقالب. كان جمالها كجمال يوسف الصدّيق.

كجمال موسى الكليم

كجمال داود الملك

ويصحّ أن يُقال عنها ما قيل عن ماري ملكة الاسكتلنديين "إن جميع الكتّاب المعاصرين متّفقون على أنها كانت على أوفر قسط من الجمال والأناقة يمكن أن يصل إليه جسم إنسان. وما من إنسان رآها إلاّ وأثارت إعجابه وتقديره". لكنّها وضعت جمالها الطبيعي، لا الاصطناعيّ، بين يديّ الله، فكان بركةً عوض اللعنة وخيراً عوض الشرّ. نعم كانت جميلةً إنما جمالها الأعظم، على حدّ قول متى هنري، كان في حكمتها وفضيلتها. فما أحسن وما أجمل أن يضع المؤمن كلّ ما عنده بين يديّ الله وتحت تصرّفه، وهو بدوره يحوّل كلّ شيء لخيرنا الروحي والزمني والجسدي.

4- طاعتها ـ هنا سرّ البركة والعظمة.

سئلت والدة جورج واشنطن عن سرّ عظمة وانتصارات ابنها، فأجابت: "علّمته الطاعة".

لقد تعلّمت استير الطاعة: طاعة الله أولاً ثم طاعة ابن عمّها (2: 10و20). ومما لا ريب فيه أن هذه الصفة في حياة استير كانت العامل الأساسي في ارتقائها عرش الملك.

ألا يذكّرنا هذا بالربّ يسوع الذي أطاع حتى الموت ومت الصليب ولذلك رفعه الله وأعطاه اسماً فوق كلّ اسم؟

ألا يذكّرنا هذا بإبراهيم الذي لما دعي أطاع طاعةً عمياء ولذلك باركه الله وجعله بركةً للشعوب.

ألا يذكّرنا هذا بيوسف الذي لأجل طاعته لله وأبيه ارتفع إلى رئاسة الوزارة في مصر بعد أن دبّر أخوته مكايد لقتلة وباعوه بأقل من ثمن العبد؟

ألا يذكّرنا هذا بنوح الذي فعل كلّ ما أمره به الله؟

ألا يذكّرنا هذا بموسى الذي أطاع الله فترك مصر غير خائفٍ من غضب الملك؟

قيل لشاول الملك قديماً " الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الكباش". فالله ينتظر منا أن نسمع منه ونخضع له ونعمل بأمره ووصاياه، لأننا في المسيح صرنا أولاد الطاعة لكي نحيا حياة الطاعة.

5- غيرتها ـ كانت فتاتنا الشجاعة ذات غيرةٍ ملتهبة واندفاع نادر.

كانت تحسّ بثقل مسؤوليتها نحو شعبها وجنسها سيّما وأن شعبها كان آنذاك في خطر عظيم بسبب مؤامرة حيكت ضدّه. فعندما فكّرت بهم وبحالتهم وما ينتظرهم تحرّكت أحشاؤها في داخلها وصرخت: "كيف أستطيع أن أرى هلاك جنسي؟". (استير 8: 6).

يا ليت الله يعطينا هذا النوع من المحبة الجارفة لخلاص النفوس!!

لم تكتفِ استير بالتعبير عن شعورها بواسطة الكلام بل وضعت كلامها موضع التنفيذ فقامت بما يلي: أولاً، خاطرت بحياتها من أجل قضية أمتها وكانت على استعداد لأن تموت في سبيل حياة شعبها. ولا زالت كلماتها "إذا هلكتُ هلكتُ" ترنّ في آذاننا وقلوبنا.

إن كلّ من ذاب قلبه محبةً للنفوس، على استعداد لأن يضحّي بنفسه من أجل الآخرين. قال بولس معبّراً عن رغبة قلبه من نحو أبناء قومه: "كنت أودّ لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل أخوتي أنسبائي حسب الجسد". وقال موسى مخاطباً الله من جهة شعبه "والآن أن غفرت خطيّتهم.. وإلاّ فامحُ اسمي من سفرك الذي كتبت".

ثانياً، تعاونت مع ابن عمّها وجميع شعبها في شوشن على الصوم والصلاة لعلّ الله يليّن قلب الملك ويعطيها سؤلها (استير 4: 16). إن هكذا صلاة وصوماً لهما كل القوة والفاعلية عند الرب. ألم يقل سيدنا "إن اتّفق اثنان منكم على الأرض في أيّ شيء يطلبانه يكون لهما من قِبَل أبي الذي في السموات"؟

ألم يقل يعقوب أخو الربّ "طلبة البارّ تقتدر كثيراً في فعلها"؟ (يع 5: 16).

استير صلّت وحصلت على ما أرادت. وكأن الله قال لها "بحسب إيمانك ليكن لكِ".

وأخيراً، تذللت أمام الملك وتضرّعت إليه لكي يزيل شرّ هامان الذي دبّره ضدّ بني قومها وقد طلبت ذلك بكلّ لجاجةٍ من الملك (7: 3؛ 8: 3).

فكان أن استجاب جلالته لطلبتها وأعطاها سؤلها.

إن كان هذا هو شأن الملوك الأرضيين فماذا عسانا نقول عن ملك الملوك؟ ـ عن الآب السماوي الذي يعطينا كلّ ما نسأله باسم ابنه الحبيب؟ "الله الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كلّ شيء؟".

ليتنا نتمثّل باستير وبشخصيتها الفذّة وبإيمانها وجرأتها وغيرتها وطاعتها وتفانيها في سبيل الآخرين.

  • عدد الزيارات: 22614