موسى: الذي عرف متى يقول لا
عب 11: 23-27
الإيمان الحقيقي له وجهان كقطعة النقود:
وجه إيجابي وآخر سلبي
وجه يقبل وآخر يرفض
وجه يقول نعم وآخر يقول لا
فيجب عدم تقوية الواحد على حساب الآخر أو إظهار الواحد وإخفاء الآخر. فالنعم واللاّ يجب أن تسيرا جنباً إلى جنب ويداً بيد. هكذا فعل موسى كليم الحليم منذ أن وطئت قدماه عتبة الدنيا. فكما كان رجل الله كذلك كان رجل الـ (لا).
1- قال "لا" لفرعون:
"بالإيمان موسى بعدما ولد أخفاه أبواه ثلاثة أشهر لأنهما رأيا الصبي جميلاً ولم يخشيا أمر الملك". ظنّ فرعون أنه هو المسيطر على زمام الأمور وأن مصائر البشر أصبحت في يده: يحيي من يشاء ويميت من يشاء. وكأني بالطفل موسى يقول ـ عبر والديه ـ للملك:
لا، لن تقدر عليّ
لن تقتلني
فالله مجبري ونصيري
وفي يده مصيري
أنا لا أخشى البشر
بل ربّ البشر
فسأحيا رغم مراسيمك
وفوق هذا أنت يا سيدي
لست سوى عبد عند سيدي
"هوذا إلهي الذي أعبده يستطيع أن ينجيني … وينقذني من يدك أيها الملك".
"أنت قصدت بي شراً والله قصد بي خيراً".
"لا أموت بل أحيا وأحدّث بأعمال الربّ".
وكان له ما أراد.
2- قال "لا" لابنة فرعون:
"بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون".
يقال أن هذه الأميرة كانت عاقراً لم ينعم الله عليها بأولاد. وفي ذات يوم نـزلت كعادتها لتستحمّ بمياه النيل المقدس وإذا بها ترى سفطاً بين الحلفاء وفي داخله صبي يبكي. فرقّت له وأخذته إلى قصرها وربّته واعتنت به كابن لها. ثم حملته إلى أبيها وأخبرته كيف وجدته. فسرّ به الملك جداً وأحبّه وعانقه ووعد أن يجعله وريثاً له بناءً على طلب ابنته. فعاش موسى حياة الرفاهيّة والأبّهة والمجد. وأصبح، بالإضافة إلى كونه وريث العرش، قائداً بارزاً بين القادة المصريين.
ويُقال أيضاً أنه لما كبر كان ـ لجماله الأخّاذ ـ موضع أنظار الناس. فإذا سار في الطريق توقف الناس عن أعمالهم لكي ينظروا إلى جماله وطلعته.
غير أن هذا كلّه لم يكن لينسيه ما هو أفضل وأبقى …
فهو لم ينسَ ما تربّى عليه في طفولته
وهو لم ينسَ شعبه وأبناء جلدته
وهو لم ينسَ إلهه وديانة آبائه
وهو لم ينسَ أن لله قصداً في حياته
ولذا جاء يوم صمم فيه موسى أن يقول وداعاً لابنة فرعون ولحياة الراحة والبحبوحة ليلتحق بشعب الله المستبعد الذليل.
ضحّى بقرابته للأميرة من أجل قرابته للمسيح. قال يسوع: "من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي".
نبذ عبادة الشمس والنيل من أجل عبادة الله الحيّ. "هكذا يقول الرب... أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري".
ضحّى بأصدقائه في القصر وخارجه من أجل صداقته لأفراد شعب الله. "رفيق أنا لكل الذين يتّقونك".
ضحّى بلقبه ـ سمو الأمير موسى ـ ليكون المجد كله لله. وكان لسان حاله "مجداً من الناس لست أقبل".
ضحّى بالمسايرات ليكون في موقف يرضى عنه الله. كان كدانيال الذي "جعل في قلبه أنه لا يتنجّس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه".
3- قال "لا" لملذّات فرعون:
"مفضّلاً بالأحرى أن يذلّ …على أن يكون له تمتّع وقتي بالخطيّة". والخطية التي يقصدها هنا هي الخطية نفسها الشائعة في معظم قصور ودور الملوك والأغنياء وذوي اليسار؛ إنها الملذّات واللّذات الدنيوية الجسدية الشهوانية.
ألم تكن هذه خطية هيرودس الذي قطع رأس يوحنا؟
ألم تكن هذه خطية أغريباس الملك الذي تزوّج بأخته؟
ألم تكن هذه خطية فاروق ملك مصر السابق؟
كذلك كانت هذه الخطية خطية معظم الفراعنة المصريين في القديم.
لا ينكر الكتاب المقدّس أن في الخطيّة شيئاً من المتعة. ولكنّه يضيف أن المتعة هي متعة عابرة ولأمد قصير. ولذا قال عنها أنها "تمتّع وقتي". وموسى قال لهذا التمتّع "لا" كما فعل يوسف الصدّيق من قبله حين قال لزوجة فوطيفار "لا".
4- قال "لا" لمال فرعون:
"حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر".
شأن موسى كشأن كل من يخاف الله. ويخدمه خدمةً خلوصة.
ما أشبهه ببطرس حين قال لسمون الساحر "لتكن فضّتك معك للهلاك …".
ما أشبهه بإبراهيم حين قال لملك سدوم: "رفعت يديّ إلى الربّ … لا آخذن لا خيطاً ولا شراك نعل ولا من كل ما هو لك".
ما أشبهه بدانيال حين قال لبيلشاصّر الملك "لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيري".
فهو لم يقدر أن يعبد ربين: الله والمال، فاختار الله وخدمته وترك المال وخدعته وبرهن على أنه كان تلميذاً حقيقياً للمسيح.
كانت قصور الفراعنة آنذاك مليئة بالنقود والسبائك الذهبية.
وكانت قبور الفراعنة آنذاك مليئة بالنواويس الذهبية على غرار ناووس توت عنخ آمون.
أما لسان حال موسى فكان:
أفضّل ربي على كل مال
على كل كنـز عسير المنال
على كل قصر وملك البطاح
أفضل ربي بخمس الجراح
ولا أملكنّ عرش العالمين
وأبقى عبد الرجيم
أفضّل ربي على كل كنـز العالم الثمين
5- قال "لا" لبلاد فرعون:
"بالإيمان ترك مصر" في الوقت الذي كانت فيه مصر آنذاك وطنه".
نعم، أحبّ مصر لكنّه أحبّ الربّ أكثر لأنه أحقّ بمحبته أكثر من أي شيء آخر في الوجود. الحقّ يقال أن موسى ترك كل شيء ليتبع الربّ ولذلك نال مئة ضعف في هذه الحياة ثم الحياة الأبدية.
هذا هو موسى الذي قال نعم ليسوع ولا لكلّ شيء عداه.
يا ليت لنا هذه الجرأة الأدبية نفسها لنجمع بين النعم واللا كأولاد الله.
- عدد الزيارات: 4686