Skip to main content

أخنوخ: الذي مشى في سن الخامسة والستين

تك 5: 18-24

عب 11: 5

كان أخنوخ رجلاً عادياً مثلنا في كلّ شيء. كان، كما قال يعقوب عن إيليا "إنساناً تحت الآلام مثلنا" ـ أي من صفّنا وصنفنا. فهو

لم يجترح أيةً ولا قام بمعجزة

لم يؤسس مملكةً ولا بنى أسطولاً

لم ينظّم جيشاً ولا خاض حرباً

لم يؤلّف كتاباً ولا نظم شعراً

لم يرسم صورةً ولا ألّف سيمفونيةً

لم يكن أميراً ولا وزيراً ولا زعيماً ولا طبيباً ولا محامياً ولا مهندساً. كما أنّه لم يكن من رجال المال والأعمال ولا من العلماء والفنيين ولا من الأفذاذ في التاريخ. كان رجلاً عادياً بكلّ ما في الكلمة من معنى. لكن ما سجّله الكتاب المقدّس عنه، بكلمات قليلة ومعدودة، لهو في عُرفي أفضل وأهمّ وأعظم من كلّ الكتب والمجلّدات التي كتبت عن غيره أبناء آدم. وهاكَ ما قاله الكتاب في عهديه عن أخنوخ:

1- سار مع الله ـ وهل هناك أروع وأجمل من رفقة الله والسير معه؟

فهو لم يركض مع الله

وهو لم يقفز مع الله

بل مشى مع الله

… لأنّ السير مع الله هو خطوة فخطوة. وقد دامت تلك المسيرة ثلاث مئة سنة لم يشعر أخنوخ خلالها:

بضجر أو سأم

بتعب أو ندم

ما أكثر بركات السير مع الله:

نوح سار مع الله فاستخدمه الله

يوسف سار مع الله فحفظه الله

دانيال سار مع الله فأحبّه الله

وكذلك أخنوخ سار مع الله فرافقه الله

فتمّ فيه ما قيل عن إبراهيم السائر مع الله، أنه صار خليل الله.

وتمّ فيه ما قيل عن آدم أنه كان يسمع صوت الله ماشياً يخاطبه ويحادثه.

وتمّ فيه ما قاله إيليا عن نفسه "حيّ هو الربّ الذي أنا واقف أمامه".

وبكلمات أخرى، عاش أخنوخ حياته في الحضرة الإلهيّة.

جدير بالملاحظة أن أخنوخ بدأ حياته مع الله منذ أن ولد طفله الأول. "وسار أخنوخ مع الله بعدما ولد متوشالح ثلاث مئة سنة …".

لقد عاش سنيه المس والستين الأولى من حياته حياةً اعتيادية. فكان كغيره من الناس: يفكّر كما يفكّرون ويتكلّم كما يتكلّمون ويتصرّف كما يتصرّفون ويعيش كما يعيشون. ثم فجأةً تغيّر كل شيء. ولد الطفل المنتظر، وما أن أخذه أخنوخ بين يديه ورأى صورته فيه حتى طرأ تغيير عجيب على حياته وأصبح إنساناً جديداً. نعم، أخذ منه الفرح كلّ مأخذ وقدّر عطيّة الله له كلّ التقدير، فما كان منه إلاّ أن قابل العطيّة بعطيّة ـ أعطى نفسه كليّةً لله. ما أعجب طرق الله! فما عجزت عن عمله سنوّه الخمس والستون استطاعه ذلك الطفل في يوم واحد.

ما أجمل الصورة: ابنه على ذراعيه

وإلهه في قلبه

يا ليت كلّ الوالدين يتمثّلون بأخنوخ فيقدّرون عطايا الله ويبادلونه بالمثل.

2- أرضى الله ـ " شهد له بأنّه قد أرضى الله".

ومن هو الذي شهد؟ الله.

شهد الله لداود بقوله "وجدت داود بن يسّى حسب قلبي".

وشهد الله لأيوب بقوله "ليس مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم..".

وشهد الله لدانيال إذ وضعه في صفّ واحد مع نوح وأيوب (حزقيال 14: 14).

وشهد الله لموسى بقوله "لم يقم نبي في إسرائيل مثل موسى".

وشهد الله لابنه بقوله "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت".

وشهد الله كذلك لأخنوخ بأنه حاز رضاه...

أيها القارئ العزيز!

هذا هو المهم. متى رضي الله فلا تهتمّ إن رضي الناس أم لا...

لكن أخنوخ شُهد له من الناس أيضاً. فقد لاحظوا التغيير الذي طرأ على حياته. لاحظوا أقواله وأعماله وتصرّفاته وحركاته. فوجدوا أن "الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكلّ قد صار جديداً".

كيف لا يشهد الناس له وقد رأوه يطرح عنه كلّ خبثٍ وشرّ ورياء وحسد ونميمة!

كيف لا يشهد الناس له وقد رأوا أنه خلع الإنسان العتيق وتسربل بالجديد!

كيف لا يشهد الناس له وقد رأوه يعيش في الروح ويسلك في الروح ويثمر ثمار الروح التي هي "فرح، سلام، طولا أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، نعفف" وأمثال هذه.

شهدوا له لأن النور لا يمكن أن يخفى

شهدوا له كما شهد فرعون ليوسف

وكما شهدت الملكة لدانيال

وكم شهدت الجارية لبولس

كيف جرى هذا الانقلاب؟

كيف استطاع أن يرضي الله؟ بالإيمان. لأنه "بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه…" (عبرانيين 11: 6).

آمن أن الله موجود.

وآمن أن الله يجازي الذين يطلبونه.

فطلب الله ـ فوجد الله.

كان الله من نصيبه وفي قلبه وإلى جانبه.

وكان الله له رباً وحبيباً وصاحباً.

وكان شعاره ما قاله داود "جعلت الربّ أمامي في كلّ حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع".

وأرضى الله أيضاً بأمانته. فالأمانة من الإيمان. كان أميناً في خدمته، كان أميناً في استخدام الوزنة التي أعطاه إياها الله. كان أميناً في إضرام الموهبة التي فيه. وما هي تلك الموهبة؟ يُجيب العهد الجديد على هذا السؤال قائلاً إنها موهبة النبوّة. فلقد ذكر يهوذا في رسالته (14 و15) أن أخنوخ تنبّأ قائلاً: "هوذا قد جاء الربّ في ربوات قديسيه ليصنع دينونةً على الجميع فجّارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلّم بها عليه خطاة فجّار". فلولا يهوذا لما علمنا شيئاً عن موهبة أخنوخ.

وكان أميناً في بيته وبين أفراد عائلته. فقد ربّى أخنوخ أولاده تربيةً صالحة في ظلّ مخافة الله. وقد أطال الله بعمر ابنه البكر متوشالح حتى أنه عاش وعاش وعاش لدرجة أن الناس ظنّوه لن يموت. عاش 969 سنة (العمر كلّه) ورأى أحفاده وأحفاد أحفاده، وأحفاد أحفاد أحفاده. وهذا يتّفق مع ما قاله الكتاب: "مخافة الربّ تزيد الأيّام".

3- نقله الله ـ "ولم يوجد لأنّ الله نقله".

عاش أخنوخ وكأنّه لم يكن من سكان الدنيا. عاش وكأنّ رأسه في السماء ورجليه على الأرض. عاش مع الله رغم كونه بين البشر.

إني أتصوّر أخنوخ وقد استيقظ في صباح يوم اختطافه وهو يحسّ بإحساس غريب. ثم ذهب كعادته إلى خلوته ولسان حاله يقول:

يا طيب ساعاتٍ بها أخلو مع الحبيبْ

يجري حديثي معه سراً ولا رقيـبْ

صلّى كما لو لم يصلِّ من قبل. واستغرق في الصلاة والتأمّل والشركة مع الله على غرار ما حدث مع بطرس إذ كان يصلّي على السطح، وعلى غرار ما حدث مع يوحنا إذ كان في الروح في جزيرة بطمس. ولما عاد من خلوته كان وجهه كوجه ملاك. وهنا دار بينه وبين زوجته الحديث التالي:

أخنوخ: إني أحسّ بشعورٍ غريب.

زوجته: هل لك أن تخبرني ما هو؟

أخنوخ: أشعر أني غريب ونـزيل على الأرض. ومن جهة أخرى أحسّ بشوقٍ شديد إلى موطني السماوي.

زوجته: لكنّك كنت تشعر بهذا من قبل أليس كذلك؟

أخنوخ: هذا صحيح، ولكنني اليوم أشعر به أكثر من أي وقت مضى. لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع الله. ذاك أفضل جداً. إني أحبّه وقد تعلّقت نفسي به، فلا أطيق العيش إلاّ بجواره.

زوجته: أولستَ تعيش معه الآن؟

أخنوخ: نعم. لكن هناك أكون في صلةٍ أوثق وشركة أعمق مع من تحبّه نفسي.

(وهنا أتصوّر أن أولاده سمعوا الحديث ودنوا منه. ثم تكلّم متوشالح).

متوشالح: ما هذا الكلام الغريب الذي أسمعه؟

أخنوخ: لا أعرف كيف أجيبك يا ابني. إنّما أقول إني سعيد جداً. وأكاد أطير من الفرح.

(وهتف قائلاً) ما أحلى يوم الارتقاء

يوم الهنا يوم اللقاء

هناك يحلو لي البقاء

مغادراً دار الشقاء.

وبينما هو يتكلّم وصلت المركبة السماوية، تحفّ بها الأجناد الملائكيّة. فنـزل منها ملاكان وتقدّما منه قائلين: "قد أرسلنا الله لكي نأخذك معنا وها العربة في انتظارك". فهتف أخنوخ: "هللويا". ثم أمسكه الملاكان (كما فعلا عند إخراج لوط من سدوم) وأصعداه إلى العربة. وصاح أحدهما: "إلى المجد... إلى المجد!". تحرّك الموكب باتجاه أورشليم السماوية. وهكذا ارتفع عنهم وهم ينظرون باندهاش واستغراب.

وهنا صاح متوشالح (كما فعل اليشع عند صعود إيليا): "يا أبي، يا أبي …!".

ثم اختفى أخنوخ عن الأبصار... وهكذا انتقل من مجد الإيمان إلى مجد العيان، من المجال الضيّق إلى المجال الرّحب، من دار الوجود إلى دار الخلود.

إن اختبار أخنوخ هو صورة مصغّرة عن اختطاف المؤمنين الأحياء عند مجيء الربّ. فهو لم يرقد لكنّه تغيّر في لحظة في طرفة عين عند سماع صوت دعوة الله. فلبس الفاسدُ عدم فساد ولبس المائتُ عدم موت وابتُلع الموت إلى غلبة. ثم اختُطف ليكون كلّ حين مع الرب.

أخنوخ سار مع الله

وكلّ من سار على الدرب … وصل.

  • عدد الزيارات: 17781