Skip to main content

جلوس يسوع "على"

القراءة: يوحنا 1:4-30

التايخ: 19/1/1975

أمامنا جلسة من جلسات المسيح، جلسة على البئر. يجتاز يسوع السامرة، ويأتي إلى مدينة اسمها سوخار بالقرب من شكيم التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه. "وكانت هناك بئر يعقوب. فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر. فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماءً".

يجلس المسيح جلسة تبشيرية يتعامل فيها معاملة فردية مع امرأة سامرية. يستغلّ الفُرَص لكي يعرّف الناس بالحق أي بالمسيح. فالتعاليم المسيحية تبقى نظريات ما لم تُطبّق على الحياة. والصليب يبقى حَدَثاً تاريخياً حَصَل في يوم معيّن وفي مكان معيّن، ما لم استفد منه عملياً. أموت مع المسيح وأَدفن خطاياي مع المسيح وأقوم معه وأتّخذه مخلّصاً وربّاً على حياتي.

يذكر الكتاب في هذه الحادثة أن يسوع تعب من السفر. ومما لا شك فيه أن الكلمة "تعب" بمعناها الحرفي أبعد ما تكون عن شخصية المسيح، وهو الذي ينادي: "تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (متى 28:11). لكن يسوع وخلال تجواله في الخدمة كإنسان من لحم ودم يجوع ويعطش ويتعب، حتى إنه لمّا وصل الى بئر يعقوب أحسّ بأنه مُنهك أضناه التعب، فكأنّه تهالك على أول مقعد وصل إليه فجلس على حافة البئر لكي يستريح. يسوع ابن الله الذي اتعبته خطية الإنسان كما يذكر عنه إشعياء بروح النبوة فيقول: "استَخدمتَني بخطاياك وأتعَبتَني بآثامك" (إشعياء 24:43). يسوع الذي يقول: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يوحنا 17:5)، يجلس لكي يستريح. فبعدما استراح الله في اليوم السابع من جميع أعماله، نراه يعاود العمل بعد سقوط الإنسان. ما أبشع خطية الإنسان فهي تُتعب الإنسان وتُتعب الله، تُشغل الإنسان وتُشغل الله. فعملية فداء الإنسان من الخطية أشغلت السماء. ربوات من الملائكة في العهد القديم عملت ضمن خطة الفداء. الآب عمل والابن عمل والروح القدس لا يزال يعمل. "الحصاد كثير"، والعمل مضنٍ والخدمة واسعة وشاقة. ونريد بنعمة الرب أن نتعلم الدروس من جلسة يسوع على البئر.

1- جلس يسوع ليستريح بعد تعب وجهاد ومشقة أسفار. لم تكن استراحة لمجرد الترفيه، والكتاب يحذّرنا بقوله: "ويل للمستريحين في صهيون والمطمئنين في جبل السامرة" (عاموس 1:6). "من ينام في الحصاد فهو ابن مخزٍ" (أمثال 5:10).

المسيح يطلب الى تلاميذه أن يستريحوا، لكن بعد جولة تبشيرية طويلة ومضنية، "فقال لهم تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلاً"
(مرقس 31:6). هل تعبنا إلى هذه الدرجة؟ هل وضعنا جميع إمكاناتنا وطاقاتنا ومجهوداتنا في خدمة الرب؟

2- جلس يسوع على البئر لكي يجدد نشاطه، لأنه عرف أنّ خدمة كبيرة كانت تنتظره. الآن سيقوم بخدمة فردية، وهذه الخدمة ستكون مفتاحاً لخدمة كبيرة وجليلة في مدينة السامرة.

استراحة مؤقتة لكي يستعيد نشاطه، ليتمكن من القيام بخدمات مستقبلية. لا نطلب الراحة الدائمة، فالراحة الدائمة هي في المجد مع يسوع إلى أبد الآبدين. هناك لن تكون خدمات، لا تبشيرية ولا تعليمية ولا عائلية، بل راحة أبدية عند أقدام المسيح. فالوقت اليوم هو وقت جهاد وعمل، وإن أضعناه، أضعناه إلى الأبد.

"فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر. وكان نحو الساعة السادسة"، أي الساعة الثانية عشرة ظهراً، وقت حرّ النهار. وبينما هو في هذه الجلسة الهادئة، تتقدم امرأة من السامرة لتستقي ماء. وينسى يسوع تعبه وينسى نفسه وينسى كل مشغوليات أفكاره ويبدأ معاملة جديّة مع هذه المرأة. الفرق بيننا وبين يسوع هو أننا ونحن في عزّ الخدمة نستريح، وامّا يسوع ففي عزّ راحته يخدم. لا يمكن للمؤمن الذي يعيش إيمانه أن يبرمج وقته دائماً بشكل منظّم ودقيق، إنْ من جهة المأكل أو المشرب أو الراحة أو الترفيه. فالمؤمن في حالة استنفار وجهوزية لأي طارئ أربعاً وعشرين ساعة.

نستغرب أحياناً عندما نسمع عن بعض الخدام الذين يحصرون فترة استقبالهم في أوقات معيّنة، ويرفضون من يأتي في غير المواعيد المحددة. مسكين يسوع الذي لم يكن لديه مفكّرة مواعيد لكنه يقول: "من يُقبل إليّ لا أُخرجه خارجاً" (يوحنا 37:6).

خدمة يسوع كانت وما زالت خدمة دائمة نابعة من شخصيته الخادمة. والعظمة في يسوع أنه يستطيع أن يهتم بكل نفس محتاجة، في أي مكان وُجدت وكيفما كان وضعها أو حالتها. ما رأى يسوع حاجة إلا وتحركت أحشاؤه، أينما وجدت هذه الحاجة ومهما كانت. والكلام هنا عن امرأة سامرية، والمرأة السامرية آخر من يجب أن تجذب اهتمام يسوع. والمرأة في ذلك الزمان كانت أقرب إلى السلعة منها إلى كائن بشري يتحرك، فكيف بها إذا كانت امرأة سامرية. ويسوع يتحرك لمساعدة هذه المرأة.

لا نظن يوماً أننا أصغر أو أحقر من أن تتحرك أحشاء يسوع من نحونا. هل يخالجك شعور بأن يسوع يهتم بالروحيين والقديسين والمهمّين، وأمّا أنت فوحيد ومنبوذ، لا تجذب انتباه أحد. تأكد أنك تجذب انتباه يسوع وهو مهتم بك. تحسّرَ المُقعَد قديماً قائلاً: "يا سيّد ليس لي إنسان" (يوحنا 7:5)، وحيد من دون أب يحنّ عليّ أو أمّ ترعاني أو أخ يهتم بي أو صديق يلتفت إليَّ. وتحرّكت أحشاء يسوع نحو هذا الإنسان، فكان صديقه ورفيقه ومعينه، ويا نِعمَ الصديق والمعين. فهو يحبّ من لا يُحَبّ ويصادق من لا صديق له. يقدّم نفسه لمن خلت حياته من كل مشاعر الصداقة والمحبة والحنان، هكذا عرفناه وهكذا سيبقى.

3- جلس يسوع على البئر مستغلاً هذه الجلسة ليخدم، ولكن خدمة طوعية. إنّ خدمة يسوع للبشر هي خدمة المحبة التي تعلو فوق المنطق. ثمة تساؤلات كثيرة ترتسم إزاء تجسد المسيح: لماذا؟ وبأي منطق؟ وهل يستحق الإنسان هذه المعاملة؟ ويأتي الجواب: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يوحنا16:3). محبة طوعية إرادية؛ فمعاملات المسيح معنا هي وليدة تفكيره ولكن من خلال عاطفة المحبة التي تغلي في أحشائه.

إيانا والظن ، في أي محنة أوظرف كنا فيه، أننا نضارب الهواء في صلواتنا، أو أن يسوع شخص غريب وبعيد، وأننا نحاول أن ننتزع الاستجابة منه انتزاعاً. هذا لا ينطبق على واقع المسيح، فهو قريب منا، "والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر" (أفسس 20:3). "ويكون أني قبلما يدعون أنا أجيب وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع" (إشعياء 24:65).

ولا نظن يوماً أن يسوع يعجز عن إعطائنا ما نحتاج إليه. منطقنا في أحيان كثيرة يتطابق مع قول المرأة السامرية: "يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة. فمن أين لك الماء الحي؟"نحن نجهل الإمكانات الإلهية، وأحياناً ننسى أنه لا يستحيل على الرب أمر. كما أننا نجهل شخصية المسيح: "ألعلك أعظم من أبينا يعقوب؟" ويحاول المسيح أن يُظهر لنا نفسَه من جديد: "الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يوحنا 58:8). "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يوحنا 56:8). رأى الإمكانات الإلهية الهائلة والعجيبة، و"هل يستحيل على الرب شيء" (تكوين 14:18).

بهذه الشخصية العجيبة يقترب منا الرب. اقترب من هذه المرأة متودداً، وبمبادرة شخصية وبشكل طوعي. كم ينبّر الكتاب المقدس على محبة الله للإنسان وكم ينفر الإنسان من الله باستمرار نتيجة خطيته وابتعاده عن الله. "الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عبرانيين 1:1و2)، إنه يتودد إلينا من خلال يسوع المسيح.

جلس يسوع على البئر. جاءت المرأة ولم تتوقع أن يتكلم الرب إليها. لكنه لم يتكلم إليها فحسب، بل حاول أن يرفع من معنوياتها فطلب منها خدمة، وهي التي تظن أنها لا تصلح لشيء ولا تملك شيئاً تقدمّه للآخرين. "فقال لها يسوع أعطيني لأشرب" (يوحنا 7:4). عجيبة محبة يسوع التي تتنازل لتبحث عنا لكي ترفعنا. "من مثل الرب إلهنا الساكن في الأعالي الناظر الأسافل في السموات وفي الأرض، المقيم المسكين من التراب. الرافع البائس من المزبلة ليجلسه مع أشرافٍ مع أشراف شعبه" (مزمور 5:113-8).

يتقرب الرب منا ويتودد إلينا، فهو يريد أن يؤمّن نوعاً من العلاقة العاطفية بيننا وبينه. أليس هذا هو الرباط الذي يشدّنا إلى المسيح، رباط المحبة؟ أليس هذا هو الرباط الذي يحفظنا وسط التجارب والصعوبات، رباط المحبة؟

4- جلس يسوع هكذا على البئر منتظراً نفساً جائعة، فيشبعها. وتأتي هذه المرأة المسكينة والتعِسَة والجائعة. فالإنسان البعيد عن الله يعيش حالة من عدم الاستقرار أو الاكتفاء. وهو يحاول أن يغبّ من هذا العالم فيزداد جوعاً ومرارة ويأساً. ويأتي يسوع لكي يعرض نفسه كوسيلة لسدّ كل حاجات العالم.

إنه لأمر مستغرب أن بعض المعلمين في هذه الأيام ينادون بالمسيح إلى جانب أشياء أخرى، لكي يُشبعوا شبيبة القرن العشرين. ما لم نشبع بيسوع فلا يمكن لأي مصدر آخر أن يشبعنا. يسوع هو مصدر الشبع الحقيقي والوافر، يشبع منه الجميع ويَفضُل عنهم. فهو نبع لقوة لا يمكن أن تُستنـزَف وطاقة لا يمكن أن تنفد. فهو الباب للتائهين والخبز للجائعين والنور للضالين والراعي الصالح الذي يقود الخراف إلى بيتهم الأمين إلى السماء. إنه يقدّم نفسه لهذه المرأة المائته كماء الحياة الذي ينعش ويشبع ويُروي.

هذه المرأة المسكينة حاولت أن تُشبع نفسها من خلال ابتعادها وانحرافها وانحدارها، وانغماسها في العالم. فالشيطان يحاول خداعنا فيعرض علينا أموراً يوهمنا بأنها تشبع القلب ويحثّنا على الإكثار منها، كتجميع المال والممتلكات والإنغماس في الشهوات والملذات، ووسائل الترفيه والتسلية المختلفة الأشكال والأجناس. وتبقى هذه المرأة المسكينة خاوية القلب جائعة تتلّمس طريقها لعلّها تمسك بمن يستطيع حقاً أن يشبع حياتها. وها هي أمامه وجهاً لوجه تنظر إلى عينيه فترى فيهما بريق الحياة، ويتفجّر من قلبه نبع من الحنان والمحبة لم ترهما من قبل. من هو هذا الإنسان الذي يصرّح قائلاً: "كلُّ من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يوحنا 13:4و14). من هو هذا الإنسان الذي استطاع أن يكشف علّة القلب وأمراضه المزمنة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. ويقدم نفسه بلسماً ودواءً وشفاءً: "قال لها يسوع أنا الذي أكلمك هو. فتركت المرأة جرتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت ألعلّ هذا هو المسيح" (يوحنا 26:4و28و29).

غيّر يسوع حياتها، بدّل كلامها، حوّل سلوكها، رفّع أهدافها، أطلق لسانها في تبشير أهل مدينتها: تعالوا انظروا وكلوا واشربوا واستفيدوا كما استفدت أنا، لا تدَعوا هذه الفرصة الذهبية تفوتكم.

5- جلس يسوع هكذا على البئر، فخدم خدمة فردية جاءت بالنتائج المجيدة. إن كنا نسعى نحو نهضة وانتعاش في كنائسنا، فلا بدّ لنا من أن نُحيي الشهادة بالخدمة الفردية. كان سهلاً على المسيح أن يجمع الآلاف ويتكلم إليهم، لكنه لم يقلل يوماً من قيمة المعاملة الفردية. لقد قدّم يسوع أسمى تعاليمه خلال معاملاته الفردية. قدّم لهذه المرأة أعظم الحقائق اللاهوتية عن كنيسة الله وعن السجود الحقيقي وعن الساجدين الحقيقيين. وقدّم لنيقوديموس لبّ الإنجيل: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 16:3).

اهتـمَّ يسوع بالأفراد وشجّع على الاهتمام بهم. وكم من أناس في تاريخ الكنيسة هزّوا العالم وكانوا هم نتيجةَ خدمةٍ فردية ومعاملةٍ خاصةٍ معهم. كان بطرس الرسول واعظاً لامعاً استقطب الجماهير وربحهم للمسيح. لقد ربحه اندراوس للمسيح واختفى اسمه.

لا نُشغل الكنيسة بالخدمات العامة على حساب الخدمة الفردية. يقول اللاهوتيون إنه عندما انشغلت الكنيسة عن العمل الفردي نزل المسيح من السماء وربح شاول الطرسوسي بمعاملة فردية وجاء به إليه، وكأنه يقول لنا، هكذا تكون الخدمة الصحيحة. والرب استخدم شاول بشكل معجزي فكان بركة للكثيرين.

دعونا نشجع نفوسنا على الخدمة الفردية التي يمكن أن تكون مفتاحاً لخدمات كبيرة. وما لم ننجح في الخدمة الفردية فلن ننجح في الخدمات الأخرى.

  • عدد الزيارات: 5465