جلوس العسكر "عند"
القراءة: متى 27:27-38
التاريخ: 5/1/1975
"ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ... ثم جلسوا يحرسونه هناك" (متى 35:27و36).
صليب عن اليمين وآخر عن اليسار ويسوع في الوسط. إثنان علّتهما مجهولة وواحد في الوسط رُفعت علّتُهُ فوقه، "يسوع الناصري ملك اليهود". وبالقرب من الصليب هذا، نساء تبعنه من الجليل يخدمنه من أموالهن مع المريمات. وفي دائرة أبعد، بنات أورشليم يبكين ويَنُحنَ. وحول الصليب تَحلّق جمهور من رؤساء الدين والشيوخ والكتبة، لكي يستهزئوا به. وبجانب الصليب مريم مع يوحنا التلميذ الحبيب الذي أراد أن يراقب يسوع وهو يلفظ انفاسه الأخيرة. وعند قاعدة الصليب جلس قائد المئة مع ثلّة من الجنود يحرسونه هناك. ونريد أن نتأمل في جلسة العسكر هذه عند قاعدة الصليب.
فنجد في هذه الجلسة:
1- أن العسكر تمموا إرادة الله من حيث لا يدرون. كل ما في الكون ومن فيه يسخّره الله لأجل إتمام مقاصده وخاصةً القصد الإلهي الأساسي في فداء الجبلة البشرية. فقد نفّذوا إرادة الله من ناحيتين. فمن الناحية الأولى جلسوا هناك لكي يتيقّنوا من موت المسيح. كانوا يحرسون يسوع منذ ساعة صلبه حتى ساعة وفاته، لكي يتأكّد لهم أنه فعلاً مات، ظناً منهم أنهم يُسْدُون خدمة إلى بيلاطس أو إلى رؤساء الكهنة. ولكنهم في الواقع كانوا يقومون بخدمة لله ولنا ولخلاص العالم. فلا خلاص من دون يقينية موت المسيح. فالكتاب المقدس يعلّم أننا بجلدته شُفينا (راجع 1بطرس 24:2)، وأنه "مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شفينا" (إشعياء 5:53). لكن الكتاب يعلّم أيضاً أن هذه هي المراحل الأولى في عملية الخلاص. لذلك يؤكد الكتاب أن يسوع أُسلم ثم مات من أجل خطايانا. "وأعرفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به ... أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب" (1كورنثوس 1:15-3). ويؤكد الرسول بولس ذلك بقوله: "المسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضاً الذي هو أيضاً عن يمين الله الذي أيضاً يشفع فينا" (رومية 34:8). ويقول الرسول في غلاطية الأصحاح الثاني والعدد العشرين: "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان إيمان ابن الله الذي أحبّني وأسلم نفسه لأجلي". فموت المسيح ضروري ليكون بديلاً عن موت الإنسان، وغاية فداء المسيح هي أن يمنحنا الحياة، وهذه الحياة لا تكون إلا عبر موت المسيح.
ومن ناحية اخرى جلس العسكر يحرسونه هناك منفِّذين مشيئة الله، ليس من جهة موت المسيح فقط بل لئلاّ ينـزل عن الصليب أو يُنـزَل عن الصليب. وكأنهم يحرسونه هناك لكي يتأكد لهم موته، بل ليؤكدوا للجميع على مر العصور والأجيال حقيقة موت المسيح على الصليب. وهكذا تمموا إرادة الله تحقيقًا للنبوة القائلة: "ثقبوا يديّ ورجليّ، أُحصي كل عظامي، وهم يتفرسون فيّ" (مزمور 16:22و17). كان يقتضي أنَّ يسوع يموت على الصليب، لا هزيمة ولا ضعفاً بل قوة وانتصاراً. ويؤكد الرسول بولس أن يسوع في موته على خشبة الصليب حمل عنّا اللعنة، لعنة الناموس، "لأن المعلق ملعون من الله" (تثنية 23:21). كان أمراً ضرورياً أن لا يموت المسيح رجماً أو رمياً بالرصاص، أو خنقاً أو بالسيف، أو إنحلالاً طبيعياً. لكن كان ينبغي أن "يُقطع من أرض الأحياء" (إشعياء 8:53). وذلك بواسطة الصليب. "فأخذ عسكر الوالي يسوع إلى دار الولاية وجمعوا عليه كل الكتيبة ... وبعدما استهزأوا به نزعوا عنه الرداء وألبسوه ثيابه ومضوا به للصلب" (متى 27:27و31). أيها الجنود لقد نفذتم إرادة الله من حيث لا تدرون.
2- "ثم جلسوا يحرسونه هناك" لكي يسمعوا آخر كلماته. غالباً ما اعتاد العسكر في حالة كهذه أن يسمعوا كلاماً غريباً وعجيباً. ذلك لأن الإنسان المحزون والمتألم والذي قلبه مليء حقداً وغضباً، غالباً ما يفجّر أحقاده على منفِّذي الحكم فيه. وعند قاعدة الصليب جلس العسكر لكي يسمعوا آخر كلمات يسوع يصبّها غضباً وحقداً عليهم. لكن ما سمعوه يكاد لا يصدق . "فقال يسوع يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 34:23). ويحار العسكر في أمرهم: هل نحن في الخيال أم في حُلم؟ هل هذا كلام مَنْ سَرَت في عروقه دماء الملوك؟ هل هذا كلام إنسان أم إله؟ وآخر كلمة رنّت في آذانهم وتردّد صداها عبر الأجيال حتى وصلت إلى مسامعنا: "قد أُكمل" (يوحنا 30:19).
3- "ثم جلسوا يحرسونه هناك" لكي يتحسّبوا لادّعاءاته. إن اللصين اللذين إلى اليمين وإلى اليسار هما إلى حد كبير مجهولان، ولكن التحسّب كلّه موجّه إلى الشخص الذي في الوسط. هذا الشخص الذي اتُهم أنه يجعل نفسه ابن الله. وهذه التهمة أثارت مخاوف بيلاطس: "فلما سمع بيلاطس هذا القولَ ازداد خوفاً" (يوحنا 8:19). "فقال لهم بيلاطس خذوه أنتم واصلبوه لأني لست أجد فيه علة ... وقال ليسوع من أين أنت ... أما تكلمني" (يوحنا 6:19و9و10). خاف بيلاطس أن تنـزل الآلهة إلينا وتتشبّه بالناس، وهذه كانت العقيدة السائدة آنذاك، وهذا يدّعي أنه ابن الله فارتعب بيلاطس. والتاريخ دوّن قديماً عن أربعة رجال يتمشون في وسط النار "ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة" (دانيال 25:3). وإذ حاول بيلاطس أن يُخفي مخاوفه قال ليسوع: "ألست تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أطلقك. أجاب يسوع لم يكن لك عليَّ سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق. لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم"
(يوحنا 10:19و11). أي أن الذي أسلمني إليك له دينونة ودينونة عظيمة، وهذا الكلام يخفي تهديداً مخيفاً للحراس الموكل عليهم أمر الحماية والحراسة. أما زال يرن في آذانهم ما سمعوه عن يسوع حين قال لبطرس: "رُدّ سيفك الى مكانه ... أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدّم لي أكثر من إثني عشر جيشاً من الملائكة" (متى 52:26و53). ولا غرابة إن كانت عيون العسكر مرتفعة نحو السماء، منتظرةً بين الفينة والأخرى ظهور ربوات من الملائكة تنـزل لكي تُثبت ادِّعاءات هذا الشخص.
يسوع هو ابن الله، ولم يكن كلامه مجرد ادّعاء فارغ بل حقيقة دامغة. سرُّ عظمة خلاصنا وأبديتّه هو أنّ من تعلّق على الصليب هو ابن الله. "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ..." (يوحنا 16:3). لم يكن هذا حقاً مكتسباً، أو مركزاً يتملّقه يسوع من اللاهوتيين وخصوصاً العصريين الذين يحترمون يسوع لدرجة الكفر، إذ يجرّدونه من لاهوته وهو على الصليب.
أمّا الإدعاء الثاني فكان أن يسوع جعل نفسه ملكاً، وهذا يعني التمرد والعصيان. أجل، فقد كان يسوع متمرّداً، لكن على الشر والفساد. واجه الخطية بصراحة وبصراحة قاسية. قاوم من عصى القوانين الإلهية ومن ابتعد عن شرائع الله. صبّ الويلات على من تمسك بالتقليد المزيّف فأبطل وصية الله.
أهكذا تكون نهاية من ادعى أنه ملك؟ أهذا هو يسوع ملك اليهود؟ يسوع ملك وسيبقى ملكاً وسيتوّج ملك الملوك. سيأتي اليوم الذي فيه تصيح السماء بأعلى صوتها: "قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه فسيملك إلى أبد الآبدين" (رؤيا 15:11).
دخل يسوع أورشليم عاصمة الملك راكباً على أتان وجحش ابن أتان، دخلها من جبل الزيتون حيث سيأتي مرة أخرى، "وتقف قدماه في ذلك اليوم على جبل الزيتون الذي قدام أورشليم" (زكريا 4:14). "والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب. أوصنا في الأعالي" (متى 9:21). ويحتج الفريسيون على يسوع لكي يُسكت تلاميذه، فهذه بداية ثورة، وإعلان ملكوت جديد. وهل يستطيع التلاميذ أن يسكتوا؟ وهل تسكت الحقيقة؟ فيسوع ملك وهذه حقيقة أرفضوها أم قبلوها. وإن سكت بعض اللاهوتيين فالحجارة تصرخ والتاريخ يخبر، والمستقبل سيكون شاهداً، والرب يدعو ابنة صهيون بلسان النبوة لأن تبتهج وتهتف لملِكها: "هوذا مَلِكُك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان"
(زكريا 9:9). "ومن يسوع المسيح الشاهد الأمين البكر من الأموات ورئيس ملوك الأرض. الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه له المجد والسلطان الى أبد الآبدين. آمين"
(رؤيا 5:1و6). الله أحبنا، وله كل الشكر، ليس بواسطة ملاك أو رئيس ملائكة، بل في شخص ابنه، أحبنا وأعطانا امتيازاً أن نملك معه. وقد رآه يوحنا على حقيقته في سفر الرؤيا: "ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أميناً وصادقاً وبالعدل يحكم ويحارب. وعيناه كلهيب نار وعلى رأسه تيجان كثيرة ... وله على ثوبه وعلى فخـذه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب" (رؤيا 11:19و12و16). "لذلك رفّعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممّن في المساء ومَن على الأرض ومَن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (فيلبي 9:2-11).
هل اعترفنا هذا الاعتراف؟ هل يسوع ملك على حياتنا؟
4- "جلسوا يحرسونه هناك"، لكن كأصنام بلا حراك أو شعور. اعتادوا هذا المنظر. ضحيّة جديدة تُقدَّم على مذبح الصليب، وهُمْ أداة تنفيذٍ لأحكام لا يَهمُّهم إن كانت جائرة أم عادلة، باطلة أم صائبة، فالأمر لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد. ولكن، من يجلس عند قاعدة الصليب ستكون له علاقة مباشرة بالصليب سلبية كانت أم إيجابية. كان لبيلاطس موقف معيّن من المصلوب، فهو على الأقل حاول أن يظهر بمظهر من يبرّر نفسه، ملقياً بتَبِعة هذا العمل على أناس آخرين. وكذلك كان ليهوذا الإسخريوطي موقف من صليب المسيح. فعندما اقترب إلى الصليب وأحسّ بدنوّ أجل المسيح، وعرف ما هي نتيجة فعلته الشنيعة، ندم وذهب إلى رؤساء الكهنة واعترف، "قائلاً قد أخطأت إذ سلّمت دماً بريئاً .. ثم مضى وخنق نفسه" (متى 4:27و5). أما زوجة بيلاطس فلم تستطع الصمت إزاء موت المسيح. فأرسلت إلى زوجها، "قائلة إياك وذلك البار" (متى19:27). والعسكر يجلسون هناك من دون أية مشاعر، تجاه ما يتكرر من افعال: بصق العسكر في وجه يسوع ولم يُندَّ لهم جبين؛ أخذوا القصبة من يده وضربوه على رأسه ولم تحمرّ لهم وجنة؛ دقوا المسامير في يديه ورجليه الطاهرتين ولم تدمع لهم عين. والآن يقتسمون ثيابه مقترعين عليها، يقامرون ويضحكون ويلعبون فيما قطرات الدم الزكي تتساقط قطرة قطرة من جسد يسوع الطاهر. وكأني بهم يقولون إن هذا كل ما نستطيع أن نستفيده من يسوع.
ما أسخف الإنسان وما أقصر نظره. وأمام قَسوة قلب الإنسان وفجوره وخطيته ومادّيته ونفعيّته، كأني بالسماء تتيقّن من ضرورة الصليب، ومن ضرورة موت المسيح وفدائه.
يا من تحتفلون بذكرى موت المسيح وآلامه وقيامته، هل تدخلون أجواء هذه المأساة في عمقها وفي جوهرها وفي أهدافها؟ هل استفدتم من مضامينها وانتصاراتها؟ أم أننا نقوم بهذه الأعمال كأنها تمثيلية تتكرر عاماً بعد عام. هل كلمات المسيح على الصليب: "اغفر لهم يا ابتاه"، تُحرِّك في قلوبنا أيَّ مشاعر؟ هل صرخته العظيمة: "قد أُكمل" ما زال صداها يدوّي في أرجاء قلوبنا؟
من لا يتأثّر بالصليب لن يتأثر بأي شيء آخر، لا بتعاليم المسيح ولا بقراءة الإنجيل، ولا بالتديّن، ولا حتى بشخصية المسيح الفذّة.
5- "جلسوا يحرسونه هناك"، لكنّ واحداً منهم تفرّد في جلسته. جلس يحرس ويراقب ويسمع ويتحسب، لكن بإخلاص. أحسّ بأن هذا الشخص ليس مجرّد ضحية جديدة، أو رقماً آخر يضاف الى الأرقام الأخرى. إنه ليس مجرد إنسان عادي. كلماته مختلفة ونظراته مختلفة ومعاملاته مختلفة. اهتمَّ بأمه وأودعها لمحبة يوحنا الذي استقى محبته من يسوع. اهتم بِلِصٍّ إلى جانبه كان يوجّه إليه التعيير مع اللص رفيقه (راجع متى 44:27). وهو الآن يوجّه إليه كلمات تحمل في طيّاتها كل معاني الأمل والرجاء والخلاص، "اليوم تكون معي في الفردوس" (لوقا 43:23).
رأى الطبيعة تعتِّم على قسوة قلب الإنسان، وكأنها تريد أن تضع هذه الحادثة بين هلالين، كي لا تُضيف إلى فجور الإنسان فجوراً وإلى خطيته خطية. والأرض تتزلزل احتجاجاً والصخور تتشقق والقبور تتفتحّ معلنة الرجاء الكامل، وهو يراقب!
وأمام ما رأى وسمع وأحسّ، انكشف الحقّ أمامه فصرخ بصوت جهوري معلنـاً أمام الجميع: "حقاً كان هذا الإنسان ابن الله" (مرقس 39:15). لا فُضّ فوك أيها اللاهوتي الأصيل. يا من فهمت الحق وقَبِلْتَه وأعلنته.
أَعلن إيمانه أمام العسكر، وأمام النسوة، وأمام رؤساء الدين، وأمام المجتازين، وأمام المستهزئين، وأمام الملحدين. علا صوت الحق ليدحض الباطل وصوت الغلبة والانتصار ليدحر آثار الهزيمة والتقهقر.
الصليب انتصار وغلبة وخلاص. أين تجلس؟ أمع العسكر الذين يحرسون المسيح كأصنام لا تتحرك أو تتأثر؟ أم تنفرد كقائد المئة، وتعلن إيمانك جهاراً معترفاً بفضل المسيح ومحبته وخلاصه.
- عدد الزيارات: 3500