جلوس الشعب "على"
القراءة: مزمور 137
التاريخ: 8/12/1974
تأملنا سابقاً في جلسة مريم عند قدمي يسوع. ورأينا أن مريم أجلست نفسها باختيارها، أي أنها وضعت بعض المجهود لتصل إلى هذه الجلسة ووضعت مجهوداً خاصاً لتبقي نفسها هناك. وما أجمل هذه الجلسة الهادئة عند قدمي يسوع.
لكن الكتاب يطالعنا بجلسة أخرى، على أنهار بابل. ونستطيع أن نلاحظ أن هذه الجلسة تختلف اختلافاً كلياً عن الجلسة السابقة. هناك، أي على أنهار بابل أُجلِسنا ولم نُجلِس نفوسنا، وهناك أُلزمنا بالبقاء، والمجهود الذي بُذل لابقائنا ليس منّا بل من غيرنا.
هذه الجلسة على أنهار بابل، هي الجلسة التي جلسها الشعب، فيما كان ينبغي أن يجلس في المكان الذي جلست فيه مريم. كما اشتهى المرنم قديماً: "واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس. أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس في هيكله" (مزمور 4:27). جلسة اقتراب من الرب، وفي دائرة المشيئة الإلهية. لكن الشعب بسبب ابتعاده عن إرادة الرب وبسبب استغلاله للنعمة، عاشوا بحسب أهواء نفوسهم وجسّدوا مطالبهم مبادئ وحقائق، وعاشوها كل يوم وسنّوها شرائع إلهية. وأرسل الرب اليهم منذرين، أنبياء ومرشدين، ولكنهم لم يصغوا اليهم. وكان الوعيد صريحاً، هأنذا "أنقلكم إلى ما وراء بابل" (أعمال الرسل 43:7). وهكذا صار، ولدى وصولهم إلى بابل جلس الشعب هناك ورفع مرثاة عبّر فيها عن حالة الحزن التي وصل إليها قسراً.
"على أنهار بابل هناك جلسنا. بكينا أيضاً عندما تَذكّرنا صهيون. على الصفصاف في وسطها علَّقنا أعوادنا لأنه هناك سألَنا الذين سبونا كلام ترنيمة ومعذبونا سألونا فرحاً قائلين، رنموا لنا من ترنيمات صهيون. كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة". كيف نرنم ونحن في المكان الخطأ وفي دائرة ليست دائرتنا. كيف نرنم والحزن يملأ قلوبنا، ونحن بعيدون عن المكان الذي نستطيع فيه أن نتفرس في وجه الرب. كيف نرنم وقد أخفقنا في اختيار النصيب الصالح، فتحولت الجلسة من عند قدمي يسوع إلى أنهار بابل.
أحياناً كثيرة لا نقدّر امتياز وجودنا بالقرب من الرب، وفي دائرة محبة الله التي ظهرت في الصليب، فغسلتنا وطهرتنا وجعلتنا ملوكاً وكهنة لله. عندما نكون في هذا الوضع السليم والمريح لا نقدّر قيمة النعمة التي نحن فيها مقيمون. ولكن حين نُسبى الى بابل نستطيع أن نقارن ونفاضل بين أورشليم وبابل: "إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك إن لم أُفضل أورشليم على أعظم فرحي". هذا النداء أو التمنّي يعبّر عن وضع مؤلم ومزعج، فالإنحدار بالنسبة إلى الإنسان الروحي يُحدث في نفسه هزة عنيفة، فيما المؤمن الجسدي ينحدر بشكل تدريجي وتلقائي فلا يحس بشيء. فالمؤمن الروحي لا يمكن أن يستريح أو يهدأ ما لم يَعُدْ مرة أخرى إلى وضعه الطبيعي وإلى المكان أو الحالة التي يجب أن يكون فيها.
لا نستغرب إن كنا أحياناً نسمع هذه التعابير أو التوضيحات: بابل لا بأس بها؛ بابل تغنينا عن نهر الأردن؛ نهر الأردن الذي افتقدناه ليس نهراً صافياً أو غزيراً مثل أنهار بابل؛ الأردن نهر واحد أما في بابل فأنهار. وكأن هذه النقلة إلى بابل هي نقلة انتعاش ونهضة. ولسان حالهم يقول: الآن أصبحنا نتمتع بالعالم كما لم نتمتع به من قبل، والذي فقدناه هناك عوضناه هنا أضعاف الأضعاف.
اذا سمع اناس هذه المرثاة التي رفعها المسبيّون الروحيّون، ورأوا الدموع التي ذرفوها حسرةً وتوجّعاً، لا بدّ انهم يندهشون وبالتالي يعتقدون أن هولاء المسبيين يسيئون فهم معاملات الله ونعمته. غريب كيف أن لغة المؤمن الروحي مجهولة لدى المؤمن الجسدي، والأوضاع المؤلمة لدى المؤمن الروحي مريحة ومريحة جداً لدى المؤمن الجسدي.
قلّة هم الذين يتألمون في حالة السبي. قلّة هم الذين ينـزعجون ويبكون عندما يبتعدون عن وضعهم الروحي. كانت حالة المسبيين الروحيين حالة مؤلمة لأنهم أُبعدوا عن مركز العبادة والإقتراب من الرب. أُبعدوا عن مكان التعزية والفرح الحقيقيين. فنحن معشر المؤمنين لا يمكن أن نفرح أو نشبع إلا بالقرب من الرب. ثمّة رباط يشدّنا إلى الرب وهذا الرباط يخنقنا عندما نشده بعيداً عن الرب. فأولاد الله يعيشون مع أبيهم، وأبناء الملك يعيشون في القصر الملكي، والعروس تسكن مع عريسها، والجسد لا يحيا من دون الرأس، والمخلوقات الروحية لا يمكن أن تعيش ما لم تتفاعل محبتها مع محبة الله. فنحن نحتاج إلى العطف الأبوي في كل حين، نحتاج إلى حضنه الدافئ وحنانه، "كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا وفي أورشليم تُعزّون" (إشعياء 13:66). المؤمن البعيد عن هذه الدائرة، هو كسمكة انتشلت من الماء أو كطير خارج سربه.
ومما يزيد الوضع إيلاماً وإحراجاً هو الشعور بعدم رضى الله. فالسبي يعني فوق ما يعني من غربة وبرية وفراق، افتقادنا بسمة الرضى الإلهي. ولعلّ أعظم قصاص نتلقاه هو أن ينظر إلينا الرب نظرة العتاب وعدم الرضى التي نظرها إلى الرسول بطرس قديماً. وله الحق أن يقول لنا بملء الفم: "عندي عليك"(رؤيا4:2).
علّقوا هناك أعوادهم مع أنه طُلب إليهم أن يفرحوا ويرنموا، وكأني بسكان تلك الأرض يحاولون أن يؤاسوهم ويُفرجوا كربتهم. وجاءتهم النصيحة: بإمكانكم وأنتم في هذا المكان أن تُعِيْدوا أمجادكم الأولى، وأن تبنوا مذبحاً، وأن ترنموا. ألا يُطلب الينا احياناً كثيرة أن نتكيّف مع الواقع الذي فرض نفسه علينا؟ ألا يُخيّل بأن هذا المكان الجديد هو محط الآمال والأحلام، وهو مكان الشهرة والعظمة، محط أنظار الشعوب، وهو مركز إحدى عجائب الدنيا وهي الجنائن المعلقة. ولكن هذه كلها بنظر أولاد الله ما هي إلا مجموعة مقابر تفوح منها رائحة الموت والنتانة.
رفعوا رايات الحداد وعلّقوا الأعواد، معلنين عدم الرضوخ لهذا الواقع الأليم ومعبرّين عن الحزن وعدم التعزية في أرض الغربة ... فالتنعّم في بابل هو سير في طريق الآلام والصعوبات، وأصوات الأعواد التي تتناغم مع القلب الحزين هي مرثاة تصعد من مآتم.
لا نحاول أن نفرض على نفوسنا واقعاً غير سليم. لا نحاول أن نتعزى بما يوجد في هذا العالم. التعاليم العصرية والمخيفة تحاول أن تجمع ما بين بابل وأورشليم، وتحاول أن تُسمعنا نقرات الأعواد في أرض غريبة، وتحاول أن تنقل تعزيات الرب إلى أنهار بابل.
لا نُخدع بالمظاهر ولا نُؤخذ بالكلام المعسول. الإبتعاد عن الرب لا يُعوَّض بأي شيء في العالم، وما عند الرب وما في العالم ضدّان لا يجتمعان. "وفصل الله بين النور والظلمة. ودعا الله النور نهارا ًوالظلمة دعاها ليلاً" (تكوين 4:1و5). وهذه التسمية مستمرة ولو حاول البشر أن يتألبوا لتغيير هذه التسمية.
"على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علّقنا أعوادنا." لا فم لهم ليرنموا في أرض غريبة، لأنّ الشعور بالسبي يستولي على نفوسهم. لم يحاول هؤلاء القوم إخفاء هذا الشعور وخداع نفوسهم، كما يدّعي بعضهم: بأن الرب موجود في كل مكان، في أورشليم وفي بابل، ونستطيع أن نرنم أينما كنا وفي أي وضع كنا فيه. فعندما نرنم نتيقّن من حضور الرب في حياتنا ونتعزى ونفرح. لماذا هذا العيش بأسلوب ضيق، أين الوعي، أين النضج، أين الانفتاح؟
أي وعي هذا وأي نضج أن نقنع اناساً مسبيين بأن هذا هو برنامج الله في حياتهم؟ أين التأديبات والتوجيهات الإلهية؟ ما معنى إحزان الروح القدس؟ وما معنى الفرح بالرب؟ وما معنى رضى الرب على الحياة؟ هل أصبحت هذه مجرد شعارات وكلمات جوفاء لا قيمة لها؟
إنّ الوعي والنضج هما في معرفة إرادة الله في حياتنا، واكتشاف مشيئته الصالحة لنا. الانفتاح هو في الاقتراب من الله والتكريس الكامل له وتقديم أجسادنا ذبيحة حيّة مقدسة له. وما يشاع في هذه الأيام من أن الوعي والنضج يعنيان أن ما رفضتَه سابقاً وحكمتَ عليه أنه غير لائق بالقديسين ولا ينسجم مع روح الخدمة، تعود فتعتنقه وتدلّلـه في حياتك من جديد؛ هذا ليس وعياً بل هو فتور وارتداد ليس إلاّ.
يعلّمنا الكتاب أنه ما لم نفرح بالرب لا يجوز لنا ولا يليق بنا أن نفرح بأي شيء آخر. "افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا"
(فيلبي 4:4).
أعلن المسبيون حالة الاعتصام والإضراب، فلم يرنموا أو يعبدوا أو يبنوا المذابح. وإلى متى ستستمرون على هذه الحال؟ إلى أن يرد الرب سبينا. "عندما ردّ الرب سبي صهيون صرنا مثل الحالمين. حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكاً وألسنتنا ترنماً" (مزمور 1:126و2). الآن نستطيع أن نرنم وأن نفرح بعد أن عدنا الى وضعنا الصحيح، إلى وضعنا الروحي الطبيعي. كانت صلاتهم باستمرار: "أُردد يا رب سبينا مثل السواقي في الجنوب"
(مزمور 4:126)، والرب سمع هذه الصلاة.
أخاف على من يفرح بالعالم أن يخسر فرحه بالرب. أخاف على من يملأ بطنه من الخرنوب أن لا يعود يتذوّق طعم العسل. أخاف على من يحاول أن يقتات بفتات هذا العالم أن يفقد طعم خبز الحياة.
إنّ أولاد الله الحقيقيين لا يمكنهم أن يفرحوا بالعالم. نحن نفرح بمن نحب ومع من نحب. والكتاب المقدس أوصانا أن لا نحب العالم ولا الأشياء التي في هذا العالم. إنّ الجلوس على حافة النهر قد يوحي بالأغاني وليس بالترانيم. فالعالم يقدم أفراحاً جسدية عالمية، والمؤمن الذي يفرح بالعالم هو مؤمن جسدي. الجلوس في الهيكل يختلف عن الجلوس على أنهار بابل، وسيبقى مختلفاً مهما طالت مدة ابتعادنا. "إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني. ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك إن لم أُفَضِّل أورشليم على أعظم فرحي".
هل نحمل أعوادنا ونعود إلى حيث يجب أن نكون؟ هل عندنا هذا النوع من التصميم على العودة إلى الحياة الروحية المكرسة بقرب الرب؟ هل نتوق إلى أن نعود فنسكن في بيت الرب كل أيام حياتنا لكي ننظر إلى جمال الرب ونتفرّس في هيكله؟ هل نعلن الإضراب المفتوح إلى أن نعود؟
إن لم تكن لدينا الأشواق المقدسة لا يمكننا أن نعود. أنّبَ المسيح ملاك كنيسة اللاودكيين لأنه استراح على أوضاع غير طبيعية، تبنّى واقعاً مغلوطاً ومبادئ غير سليمة ومواقف غير روحية واستراح عليها، ولسان حاله يقول: "قد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء" (رؤيا 17:3).
"على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا". الآن ليس وقت الترنيم بل البكاء. "لأن الحزن الذي بحسب مشيئة الله ينشئ توبة"
(2كورنثوس 10:7).
ليت الرب يُحيي فينا الأشواق المقدسة من جديد لكي نعود إلى الأيام الحلوة والطيبة مع الرب، أيام التكريس والخدمة، أيام درس كلمة الله والصلوات الطويلة، أيام الإنتاج والعطاء، حتى تعود وتمتلئ أفواهنا ضحكاً وألسنتنا ترنماً. فلا نستريح إلا بعد رجوعنا إلى واقعنا السليم.
- عدد الزيارات: 4672