Skip to main content

جلوس راحيل "على"

القراءة: تكوين 17:31-34

التاريخ: 24/11/1974

أمامنا حادثة راحيل التي سرقت آلهة أبيها ووضعتها فوق حِداجة الجمل وجلست عليها. وكلمة جلوس تعني الاستراحة والاستقرار، والخطر كلّه يكمن في الجلوس والاستراحة إلى أمر خطأ وأوضاع شاذة. لقد جلس بطرس بين الخدام، في أجواء غير ملائمة وفي مكان ليس له. وأفتيخوس عاش حياة الرفعة المصطنعة وابتعد عن القديسين أولاد الله فحصد الضرر والخسارة.

أمّا راحيل فقد لبّت حسب الظاهر نداء الله الذي صار إلى زوجها يعقوب، حين ظهر له ملاك الله في حلم قائلاً: "أنا إله بيت إيل حيث مسحت عموداً، حيث نذرت لي نذراً. الآن قم اخرج من هذه الأرض وارجع إلى أرض ميلادك" (تكوين 13:31). وتيقّن يعقوب من صوت الرب، حين رأى أن وجه لابان ليس نحوه كأمس وأوّل من أمس. وحين سمع تصريح بنات لابان: "إن كل الغنى الذي سلبه الله من أبينا هو لنا ولأولادنا" (تكوين 16:31). لبّت راحيل نداء الرب وخرجت من هذا المكان الذي لم يعد لائقاً بها ولا بزوجها ولا بأولادها، "فالآن كل ما قال لك الله إفعل" (تكوين 16:31).

خرجت راحيل من ذلك المكان وقصدت بيت إيل، وأصعدت معها أصنام أبيها وخبّأتها، وفي الوقت المعيّن جلست عليها. اليس أمرًا غريباً أن تخبِّئ راحيلُ المحبوبةُ الخطيةَ وتستريح إلى الوضع. أن يفعل الإنسان الخطية هو جهالة، لكن أن يخبِّئ الأمر ويستريح هو منتهى الجهالة. أن تسرق راحيل الأصنام وتقتنيها هو خطية وشر، لكن أن تخبئها وتتمسك بها هو أشرّ. والغريب في الأمر ايضاً هو أنها على عكس بقية النساء، كانت كتومة لدرجة أنها خبّأت الأصنام عن زوجها ولم يعرف بها. فعندما سأل لابانُ يعقوبَ "لماذا سرقت آلهتي" (تكوين 30:31)؟ كان جوابه: "الذي تجد آلهتك معه لا يعيش … ولم يكن يعلم أن راحيل سرقتها" (تكوين 32:31). هذا سؤال غريب بالنسبة إليه، إذ لا يمكن أن يكون في بيته آلهة غريبة، وفوق هذا كلّه لا يمكن ان يوجد سارقون. ثم إن كان هنالك أي أمر مخالف لإرادته، فلا بد أن يعرف به. هو رجل يُربّي أولاده تربية صارمة ومتمسّك بالمبادئ والوصايا مع جميع أفراد بيته.

عندما تتسرب الخطية إلى الحياة لا يعلم بها أعزّ الأعزاء وأقرب المقرّبين، حتى إن راحيل نفسها لم تكن تدرك ما فعلت تماماً. إنه أمر طبيعي إذ اعتادت أن ترى الأصنام وتجاورها، اعتادت أن تعيش معها، من دون أن تعرف ما معنى هذه الأصنام في نظر الله وبالنسبة إلى الحياة الروحية الصحيحة. كانت راحيل تتمتّع بنوع من الإيمان لكنه إيمان عصري لا يعرف للخطية وزناً، ولسان حالها يقول: ما الضرر أو المشكلة في إقتناء هذه الأصنام؟ ثم إن هذا أمر شخصي لا يضرّ بأحدٍ. إنه أمر أَستحسِنُه، وأقلّه ان أتمتع بحريتي الشخصية في اقتناء ما أريد. فيا ايتها المؤمنة العصرية، إن الإنسان مسؤول عن نفسه وعن غيره، وتصرفاته المفسدة، تؤثر فيه وفي الآخرين، وليس للإيمان انواع وانواع، فإما أن يكون كتابياً وإما لا يكون.

كثيراً ما نسمع هذه التعابير التي لا وجود لها في كلمة الله: إنه مؤمن لكن على طريقته الخاصة. إنه مؤمن يحب الرب ويحب الأصنام. انسان كهذا هو مؤمن بنفسه وبضميره وليس بالله. فالإيمان بالله يعني أن يعيش الإنسان بحسب كتاب الله وبرنامج الله.

خبّأت راحيل الأصنام وجلست عليها، ولكن الأصنام التي نخبِّئها غالباً ما تظهر بعد مدة وجيزة من الزمن. تظهر حين تكبر وتخرّب وتؤخر المسيرة. كانت وجهة سير يعقوب نحو بيت إيل، لكننا نجده يتمهّل في سيره ويستكين في أماكن هادئة. يعيش حياة الخوف مما قد يواجهه من مخاطر ومفاجآت. كانت حياته في هذه الفترة سلسلة من المآسي والمخاوف والفضائح الأخلاقية، إلى أن حاصره الرب أخيراً ليرده إلى الطريق القويم ويصعد به من جديد نحو بيت إيل.

"فقال يعقوب لبيته ولكل من كان معه اعزلوا الآلهة الغريبة التي بينكم وتطهّروا وأبدلوا ثيابكم" (تكوين 2:35). ومن أين الآلهة الغريبة؟ هل أفرخت أصنام راحيل التي جلست عليها ولم يَدْرِ أحد بها؟ بقي الأمر بحسب الظاهر سراً، ولا علاقة لأحد به، لكنها تكاثرت وتفشت وظهرت بصُوَرٍ ومظاهر مختلفة، "فأعطوا يعقوب كل الآلهة الغريبة التي في أيديهم والأقراط التي في آذانهم. فطمرها يعقوب تحت البطمة التي عند شكيم"
(تكوين 4:35). كانت النتيجة أن الحياة تنجست والثياب تنجست والأجساد تنجست، وأصنام راحيل أفرخت فتوزعت على جميع أهل البيت.

كيف يصل ابن البركة إلى هذا الوضع هو وأهل بيته؟ كيف يمكن الإنسان المدقق الذي ركض وراء البركة وأراد أن يحصل عليها بجميع الوسائل الشرعية وغير الشرعية، أن يبلغ هذا الدرك؟ كل ذلك لأن راحيل جلست على الخطية واستراحت عليها. كان يجب أن تكون أصنام أبيها أشواكًا بالنسبة إليها، ونارًا تحرقها فلا تهدأ ولا تستريح ما دامت تحتضنها. عجيب كيف يتآلف الإنسان مع الخطية إلى درجة أنه يجلس عليها ويستريح. سرقت الآلهة ولم ينـزعج الضمير من كلمة سرقة، أصنام وآلهة غريبة ولم تتحرك المشاعر الروحية أو تتأثر. فالشيطان يعرف كيف يزجّ الخطية في الإناء الأضعف ويدخل بها إلى المكان المقصود. وكثير من الخطايا يتسرّب إلينا بسهولة، فهي أصنام جاءتنا من الأهل، أصنام محبّبة اعتدنا عليها في بيت الأب. وبسهولة نمسك بها ونخبئها، فنحن لا نسرق أصنام الجيران بل أصنام الأب. ثمة خطر كبير في الخطايا العائلية التي اعتدنا عليها. وكأن راحيل تريد أن تبقي نوعاً من الصلة ما بين لابان الخدّاع الطمّاع السارق وما بين يعقوب صاحب الدعوة المتكررة ليرث البركة. هذا أسلوب الشيطان الذي يريد لنا أن نحتفظ "بمسمار جحا" الذي يشدّنا إلى الوراء. والكتاب واضح وصريح بقوله: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً" (2كورنثوس 17:5).

هذا يعني أنه ينبغي لنا ألاّ نتمسّك بما نستحسنه أو بما اعتدنا عليه أو بما نستصعب التخلّي عنه، لأنّ هنالك فاصلاً بين الحياة القديمة والحياة الجديدة بمبادئها ومواقفها وعبادتها وسجودها وأخلاقها.

أحياناً، قد يكون ما اقتنيناه في الماضي عزيزاً علينا، ويخصّ أناساً عزيزين علينا من أهل وأقرباء. ولكن لا يجوز أن نسير بحسب عواطفنا أو مشاعرنا بل لنترفّع إلى مستوى المبادئ والتعاليم الكتابية، ونقيس تحركاتنا على أساسها، فنقطع كل صلة عاطفية بالماضي بكل ما فيه ومن فيه.

كيف استطاع الله أن يبارك إبراهيم؟ "قال الرب لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمّةً عظيمة وأباركك وأعظّم اسمك، وتكون بركة" (تكوين 1:12و2). وحين انحرف إبراهيم قليلاً عن الطريق، ظهر له الله "وقال له أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملاً" (تكوين 1:17). لا تعوّج الطريق فأنا إله أسير في خط مستقيم، إذاً سر أمامي سيراً واضحاً وصريحاً وسليماً ومستقيماً.

كيف تنتقل دودة القز من حالة الزحف على بطنها إلى حالة الطيران؟ عليها أن تصنع شرنقة تتقوقع فيها لوقت معيّن تنقطع فيه عن العالم الخارجي، ثم تخرج من الشرنقة وإذا هي فراشة جميلة تملك إمكانات جديدة وآفاقاً جديدة، تطير إلى عالم جديد لا تطاله الأيدي.

قد يبدو المؤمن، في حياة الإيمان، وكأنه يخنق نفسه ويتقوقع في شرنقته، فيقطع كل صلة بالماضي وبما حوله. وماذا تكون النتيجة؟ إنه ينطلق شخصاً جديداً في حلّة جديدة بمواقف جديدة وتطلّعات جديدة. ينتقل من مكان إلى مكان بملء الحرية والنشاط من دون قيود أو رُبُط تشده أو تثبّط عزمه.

إنّ قيوداً كثيرة وأصناماً متنوعة نجلس عليها ونقيّد نفوسنا بها فتحدّ من إمكاناتنا وتعيق مسيرتنا الروحية؛ فلا بأس من تعداد بعضها.

الصنم هو أيّ شيء يربطنا بالماضي لا علاقة له بالإيمان، إذ إن "كل ما ليس من الإيمان فهو خطية" (رومية 23:14).

والصنم هو أيّ إنسان أو أي شيء نحبّه وندلّله في حياتنا أكثر من الرب.

والصنم هو أيّ إنسان أو أيّ شيء يمنعنا عن السير في طريق الدعوة الإلهية.

وقد تكـون محبـة المال صنمـاً، "لأن محبـة المال أصل لكل الشرور" (2تيموثاوس 10:6). وهذا الصنم لا يركض نحوه الأغنياء فحسب، بل ايضاً الفقراء الذين يريدون أن يصيروا أغنياء. والكتاب يحذّرنا من السعي وراء الغنى: "لا تتعب لكي تصير غنياً، كُفّ عن فطنتك"
(أمثال 4:23).

هناك أيضاً صنم المركز، حيث يسعى الإنسان لكي يكون له مقامه ومكانته واحترامه. يسعى نحو المراكز الاجتماعية، وقد يسعى نحو المراكز الروحية. أما المطلوب فهو أن نجدَّ في إثر الخدمة وليس المركز، نخدم الخدمة الظاهرة والخدمة الخفية، نخدم بصيت حسن وبصيت ردي.

وماذا نقول عن صنم الشهرة، حيث يسعى الإنسان لكي يصبح محط الأنظار، واسمه متداولاً على كل الشفاه. يمدح الناس خدمته وصلاته وإنجازاته.

وإن قلنا إنّ هذه الأصنام بعيدة عنا كل البعد، فلنمتحن أنفسنا بشأن أصنام سوق الأباطيل، حيث يميل القلب وراء العالم وما يقدّمه من جواذب واختراعات ومغريات؛ هذه الأمور الموجودة في العالم التي يزيّنها الشيطان ويجمّلها ويقدّمها للإنسان بحلل جديدة ومتنوعة فتصبح صنماً.

وماذا نقول عن صنم الجمال، ومحبة الذات، وحب الظهور، وكسب الاحترام بشتى الاساليب والوسائل المشروعة وغير المشروعة؟

وقد نسمّي أصنام راحيل أصنام العشائرية، إذ تمسكت بها راحيل كرمز من رموز العائلة المتوارثة من الجدّ إلى الأب إلى الابن، وهي من نصيب الابن المدلّل والوريث الشرعي. وَمَن أحقُّ منها ومن زوجها الذي خدم لابان عشرين سنة؟ إنها زوجة صالحة تحبّ زوجها وتحاول تحصيل حقه، بيد أنه كان من الأفضل أن تعيش الحياة الروحية السليمة أمام زوجها وعائلتها، وأن تتمسك بالمبادئ الكتابية بدل أن تتمسك بأصنام العشائرية. فمحبتها لزوجها بهذه الطريقة عرقلت المسيرة وأخّرت الدعوة ومنعت الصعود إلى بيت إيل، وأخيراً قضت على راحيل.

"أيها الأولاد احفظوا أنفسكم من الأصنام" (1يوحنا 21:5). وكما يقول القس برنابا نوس الطيّب الذكر: "إن لم نحطّم الأصنام فستحطّمنا، وإن لم نَقضِ على الخطية فستقضي علينا".

الله لا يرضى بأن نذهب بأصنامنا إلى أرض الدعوة أرض البركة. عندما بارك الرب الكنيسة الأولى، وكانت الكنيسة تصلّي من أجل انتعاش ونهضة "ولتُجرَ آيات وعجائب باسم فتاك القدوس يسوع" (أعمال الرسل 30:4)، مدّ الرب يده واقتلع حنانيا وسفيرة.

"ولما كانت مسافة من الأرض بعد حتى يأتوا إلى أفراتة وَلَدت راحيل وتعسّرت ولادتها. وكان عند خروج نفسها لأنها ماتت أنها دعت اسمه بن أوني. أمّا أبوه فدعاه بنيامين" (تكوين 16:35و18). دعت اسمه بن أوني أي ابن حزني، ويا ليتها حزنت للتوبة، "لأن الحزن الذي بحسب مشيئـة الله ينشئ توبة" (2كورنثوس10:7). "لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حُكِم علينا" (1كورنثوس 31:11). دعت اسمه ابن حزني أما أبوه فدعاه بنيامين أي ابن يميني. هذا سيكون بداية البركة وبداية النصرة لأننا تخلّصنا من الأصنام.

علينا أن نقتلع الأصنام بأيدينا، فلا نصلّي يا رب انزع الأصنام من حياتي، لئلاّ يأتينا الجواب: "أيها الأولاد احفظوا أنفسكم من الأصنام، اعزلوا (بأيديكم) الآلهة الغريبة". لا تجلس على الخطايا التي تسرّبت إلى حياتك، ثم تصلّي، يا رب احفظني شخصاً روحياً؛ بل عليك أن تحفظ نفسك من الأصنام، عليك أن تتّخذ القرارات الروحية وتصمّم أن تعزل من حياتك الآلهة الغريبة وتدفنها تحت البطمة وتسلك في طريق الدعوة والبركة.

  • عدد الزيارات: 5801