جلوس أفتيخوس "في"
القراءة: أعمال الرسل 7:20-12
التاريخ: 17/11/1974
لقد جلس بطرس "بين" الخدام، جلسة الخائف والمتستّر، جلس بين خدام مأجورين وفي مكان ليس مكانه. ولولا نظرة المسيح إليه لإنقاذه في الوقت المعيّن، لكان تهوّر وابتعد وفشل فشلاً ذريعاً.
والآن نريد أن نتأمل في "الجلوس في". يذكر الكتاب المقدس أن أفتيخوس كان جالساً في الطاقة متثقلاً بنوم عميق. وهذا لا يعني أن جلوس أفتيخوس كان في غير محله، لكننا نعلم أنه سقط من الطبقة الثالثة ووقع ميتاً. وهذه النتيجة تساعدنا أن نميّز إن كان الوضع سليماً أم لا. لذا نريد أن نتعلم العِبَر من حادثة جلوس أفتيخوس في الطاقة، معرّجين على ذكر الأسباب التي أوصلت أفتيخوس إلى هذه الحال.
كان التلاميذ مجتمعين في أول الأسبوع، ويا لَعِظَم الاجتماع إذ إنّ الرسول بولس بشحمه ولحمه في وسطهم، يكلمهم ويعلمهم. فرصة نادرة يغتنمها الرسول لكي يشاركهم في اختباراته وينقل إليهم أخبار النهضة والإنتعاش في كل مكان. في هذا الاجتماع المبارك والحيوي والمنعش نجد أفتيخوس يجلس في الطاقة.
إنّ أول خطإٍ ارتكبه أفتيخوس هو أنه ارتقى أعلى من الآخرين. نحن لا نعرف ما هو السبب، لكن نستطيع أن نؤكد أن عند أفتيخوس أسباباً خاصة جعلته ينفرد في شخصيته عن الآخرين في الكنيسة. وقد تكون هذه الأسباب الخاصة أعذاراً شرعية بالنسبة إلى الفرد، ولكنها تصبح غير مقبولة وغير شرعية عندما تخالف الترتيب الكتابي وتجعل الإنسان يرتفع بها عن مستوى الكنيسة. فمن لديه أسباب خاصة فليحتفظ بها لنفسه ولا يشارك الآخرين بها لأنها ليست بركة للآخرين ولا للكنيسة.
كان الجميع بنفس واحدة، جسماً واحداً، يجتمعون في مكان واحد، يجمعهم هدف واحد، يربطهم مصير واحد، سيدهم واحد، لهم خدمة واحدة. لكن أفتيخوس انفرد عن الكنيسة وارتفع إلى الطبقة الثالثة. انتقى مكاناً مريحاً في طاقة وجلس فيها. جلس بصفة مراقب وكأن ما يدور حوله لا يخصه لا من قريب ولا من بعيد. إنّ الوضع السليم في اجتماع الصلاة، يحتّم على الجميع أن يصلّوا بنفس واحدة، وخلال الاسبوع التبشيري ان ينشغل الجميع بالخدمة التبشيرية، وفي اجتماع درس الكتاب المقدس أن يركّز الجميع على تفحّص الحقائق الإلهية، وهكذا يكون الجميع في روح الصلاة وفي علاقة بالرب، بيد أن اناساً يتلفتون ذات اليمين وذات اليسار، ويرتقون إلى الطبقة الثالثة وكأنهم يحملون منظاراً فيه يراقبون ما يدور حولهم. الجميع يتعزون بوجود الرب في الوسط والجميع ينتظرون كلاماً وبركة وتعزية ورؤى جديدة، فيما أفتيخوس يجلس في الطاقة مراقباً ما يجري حوله؛ فإذا وجد أن ما يجري هناك يناسب أداءه نزل واندمج وإلا بقي في الطاقة يراقب ويتفرج. إنّ الكنيسة ليست مسرحاً للفرجة، لكنها مسرح للجهاد والعمل. إنها تمثل وجود الله في العالم وتحمل قضية الصليب وقصة الفداء، لذا فهي تحتاج إلى مشاركة أعضائها بعضهم مع بعض.
إن الكثيرين في أيامنا هذه يشبهون أفتيخوس. فهم يجلسون مع الجالسين ويعبدون مع العابدين ويرنمون مع المرنمين ويخدمون مع الخادمين ولكن لهم "طاقتهم" الخاصة "وطبقتهم" الخاصة يجلسون فيها باستمرار. يراقبون ولا يشاركون بشكل فعلي وعملي. قد نُشرك بعض حواسنا في خدمة الكنيسة ولكن القلب لا ينسجم ولا يشارك. فالكتاب المقدس يشدّد على الروح الواحدة والقلب الواحد والرأي الواحد والحس الواحد. وأحياناً نظن أنه بسبب إطالة اطناب الكنيسة وازدياد عدد أعضائها تفقد الكنيسة الى حدٍ ما روح المشاركة. ولكن لا بد أن عدد أعضاء الكنائس التي خدم فيها الرسول بولس كان يفوق عدد أعضاء كنائسنا اليوم، وهذا لم يُفقدها روح المشاركة. إن روح المشاركة هي نتيجة الشركة مع الرب، وما دام الرب في وسط الكنيسة وما دام الرب مع شعبه وما دامت لنا شركة متينة معه فنحن في شركة بعضنا مع بعض. لقد فقد أفتيخوس روح الصلاة وروح العبادة وبالتالي فقد روح المشاركة.
إنه لأمر مؤسف أن يصل المؤمن إلى هذه الحالة. فقد يصل المؤمن إلى درجة يتمكن فيها من درس كلمة الله وفهمها، ويتمكن بسهولة من تنسيق المعلومات تنسيقاً وافياً، وقد يتخصص في أحد مرافق الخدمة، ولكن إن كان هنالك من مجال للحسد والغيرة، فمؤمن كهذا لا يُحسد، بل يُحسد من أتقن فن العبادة والدخول إلى العمق إلى قدس الأقداس؛ يُحسد من دخل إلى بيت الخمر فتلذذ بالشركة مع الرب وبشركة القديسين التي هي عمود من أعمدة الكنيسة: "وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات" (أعمال الرسل 42:2). يُحسد من يحب الأجواء الروحية ويتشوق إليها ويندمج فيها.
لا نعلم لماذا وصل أفتيخوس إلى حدِّ فقدان روح الشركة، فجلس في الطاقة بعيداً عمّا يجري حوله، بعيداً عن هذه الأجواء الجميلة المباركة. لماذا أصبح مراقباً متفرجاً لا يتمكن من المشاركة؟ ربما رويداً رويداً ومن دون أن يدري تسربّت إليه روح الانتقاد، فراح ينتقد الترتيبات والانظمة والاجتماعات كلَّها والناسَ جميعاً. بدأ بانتقاد بعض الأخطاء الظاهرة متناسياً نفسه، ثم بدأ ينتقد الأخطاء الإستنتاجية ونسي نفسه، ثم بدأ يعتقد بأنه في مركز يستطيع فيه أن يميز خير تمييز ويبني نفسه. وهذه الانتقادات تبدأ همساً ثم تصبح وسوسة ثم ترتفع لتصبح صوتاً وأخيراً تعلو لتُمسي جَلَبَةً وضجيجاً.
كانت النتيجة أن أفتيخوس وجد نفسه من دون صديق أو رفيق أو حتى محب. ولو حاول أن يجد في الكنيسة مقعداً يجلس فيه لوجد نفسه بجوار من انتقده فما أمكنه الجلوس. لم يجلس في الطاقة رغبة منه في الجلوس هناك، لكنه أوصل نفسه إلى هذا المستوى، فكانت النتيجة أن الطبقة الأولى رفضته تلقائياً لأنه رفضها، وهكذا وجد نفسه منفياً في سجن إجباري، وحيداً متقوقعاً في الطاقة.
هل من علاج؟ وهل استطيع أن أغيّر الوضع؟ نعم، لكن ينبغي لك أن تأخذ المبادرة. فإن كنت تريد محبة، فعليك أن تقدّمها أولاً. وإن رغبت في أن يزورك الآخرون ويهتموا بك، فعليك أن تبادر إلى ذلك أولاً. "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم" (متى 12:7).
إياك يا أخي من النقد والمذمة والكلام على الآخرين. إياك أن تكون كمريم التي همست كلاماً في غير محله، مما جعل الرب يأخذ الإجراءات اللازمة ويُظهر برص القلب إلى الخارج. لنسرع إلى معالجة الأمر قبل أن يستفحل. لنكن إيجابيين فسنرى كيف ستتبدل كل الظروف.
لا نقدر أن نعود إلى العالم لنعيش فيه من جديد، إذ نعلم أن في العالم ذئاباً ووحوشاً ضارية ومخيفة. وكذلك نعلم أن العالم يسير بخطىً سريعةٍ نحو الدمار والهلاك. لقد وعى أفتيخوس هذه الحقيقة، إذ لا يستطيع أن يرجع إلى الوراء وفي الوقت عينه لا يستطيع أن يعيش في الكنيسة ويندمج في الكنيسة ويتعزى في الكنيسة، لذلك وجد الحل في التستّر في الطاقة. أراد أن يعيش بين بين. نسأل عنه ظانين أنه ليس بموجود فيجيب من الطاقة وكأنه شبه موجود. عضو فخري ينتسب ولا يشارك.
لا يمكنك أن تعرّج بين الفرقتين لأن "الملتوي في طريقين يسقط في إحداهما" (أمثال 18:28). لا يمكنك أن تكون في الكنيسة وخارجها في آن. كم يشدد الكتاب على الهوية الواضحة، هوية الإيمان. "لا تزرع حقلك صنفين … لا تحرث على ثور وحمار معاً. لا تلبس ثوبـاً مختلطـاً صوفـاً وكتانـاً معـاً" (تثنية 9:22-11). لتكن هويتك صريحة، إمّا مع الرب من كل قلبك وإمّا مع العالم. إن كان إيمانك ذا قيمة فهو يستحق أن يعاش، إذاً لِنَعِشْهُ كما يجب أن يعاش ونُظهره للملا. لا تَعِشْ في عالمك الخاص، عش في عالم الكنيسة، عش في عالم الكتاب المقدس، عش بحسب البرنامج الإلهي.
ربما لم يكن أفتيخوس معجباً بوعظ الرسول بولس، أو ربما شعر بأن الكلام موجّه إليه، ويحثه على التغيير والتوبة، أو ربما حمل الكلام في طيّاته توجيهات جديدة تدفعه نحو توجّهات جديدة، فكانت النتيجة أنه انسحب إلى عالمه الخاص.
ماذا هنالك في الطاقة؟ في الطاقة أعيش بحسب ارتياحي الشخصي وبحسب ما يمليه عليّ ضميري. إن وعظ الرسول بولس جميل جداً ولا سيما أنه ينبع من شخص مبارك قام بتأسيس كنائس متعددة ومباركة، ولكنني لست مستعداً لهذا النوع من الإيمان، انا اختار الطريق الذي يناسبني، انا اختار الطريق الأسهل؛ امّا الرب فيريد لنا ان نعيش الحياة المطلوبة، المرتكزة على المبادئ الكتابية لا على استحساننا الشخصي.
يرسم لنا الرب يسوع معالم الطريق الذي يجب أن نسلكه فيقول "ادخلوا من الباب الضيق، لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدّي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدّي إلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه" (متى 13:7و14). ربما كان حديث الرسول بولس يتناول الباب الضيق، فكان يتكلم بما يقوله الكتاب معلّماً التعاليم السليمة والصافية، أمّا اخونا أفتيخوس فانزعج وانسحب.
ثمة تعاليم سهلة التطبيق مؤسسة على جو المرح والتساهل، وثمة تعاليم عصرية زحفت إلى بلادنا تنادي بإنجيل اجتماعي يصورّ لنا الحياة جميلة وممتعة، وإذ ذاك يحثّنا على استغلال كل ما فيها لكي نستمتع بها. ولكن كتابنا يعلّم بأن نفرح بالرب لا بالعالم وما فيه من أفراح زائفة وهميّة. "افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا" (فيلبي 4:4).
يظنّ بعض الناس احياناً أن تعاليم الرسول بولس الصريحة والنقية تسمو فوق مستوى إدراكهم الروحي، فلا حاجة لهم أن يكلّفوا أنفسهم مشقّةَ معرفتها. وقد تدعوهم هذه التعاليم إلى اعتماد خطة جديدة في حياة الإيمان حيث التكريس والقداسة، فيشعرون بأن هذا الكلام يصلح لغيرهم وليس لهم، ولسان حالهم يقول ما قاله ملاك كنيسة اللاودكيين قديماً: "إني انا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء" (رؤيا 17:3). هل نصل إلى وقت نحسّ فيه بالتخمة، وبأن ما عندنا يكفينا، ولسنا في حاجة إلى بركة جديدة ولذا لا نحتاج إلى أجواء العبادة والشركة الروحية؟
ربما لم يعد أفتيخوس يحتمل كلمة الوعظ، وكما يقول النبي إشعياء: "لم يشاءوا أن يسمعوا شريعة الرب. الذين يقولون للرائين لا تروا وللناظرين لا تنظروا لنا مستقيمات، كلمونا بالناعمات" (إشعياء 9:30و10). "لأنه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحِكّة مسامعهم فيصرفون مسامعهم عن الحق وينحرفون إلى الخرافات" (2تيموثاوس 3:4و4). هؤلاء يفضّلون المواضيع التي تلعب على أوتار العواطف والآذان ولا تؤثر في القلب أو الإرادة.
كل شيء ممتاز بالنسبة إلى هؤلاء ، الترنيم ممتاز، والحضور ممتاز، "ويشفون كسر بنت شعبي على عثم قائلين سلام سلام ولا سلام"
(إرميا 14:6). يجب أن يُصلَح الكسر أولاً ثم يُجبر. لا بد لك يا إرميا من أن تكشف الحق وتضع إصبعك على الجرح. "أما أنت فنطّق حقويك وقم وكلّمهم بكل ما آمرك به. لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم"
(إرميا 17:1).
لكن الشعب يريد نوعاً آخر من الكلام، كلاماً يشنف آذانهم ويطربهم. "ويأتون إليك كما يأتي الشعب ويجلسون أمامك كشعبي ويسمعون كلامك ولا يعملون بـه لأنـهم بأفواههم يُظهرون أشواقاً وقلبهم ذاهب وراء كسبهم. وها أنت لهم كشعر أشواق لجميل الصوت يُحسن العزف فيسمعون كلامك ولا يعملون به"، لكن لا تفشل
يا حزقيال لأنه في يوم من الأيام سيعلمون، "أن نبياً كان في وسطهم" (حزقيال 31:33-33).
ربما كان لأفتيخوس نَفَسٌ قصير، وهذه علة وآفة في هذه الأيام. نبدأ بالروح ونكمَّل بالجسد. نبدأ حارّين ، مصلين، مكرسين، ثم نبرد ونفتر ونتغير، والسبب نَفَسٌ قصير. "لأن كثيرين يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مراراً والآن أذكرهم أيضاً باكياً" - بغصّة، وحرقة وحزن، (فيلبي 18:3).
وأخيراً جلس أفتيخوس في الطاقة لأنه ظن أن بإمكانه الاستغناء عن الكنيسة. الكنيسة تعلّم وهو استغنى عن تعليمها، الكنيسة تتعبد وهو استغنى عن العبادة، الكنيسة تخدم وهو استغنى عن الخدمة، الكنيسة تتلمذ وهو استغنى عن التلمذة، الكنيسة ترعى وتحضن أما هو فليس في حاجة إلى أحد؛ فجلس وحده. لكن لولا الكنيسة لمات وبقي ميتاً. أفتيخوس المستغني سقط من الطبقة الثالثة فوقع ميتاً، ولولا صلاة الكنيسة واحتضانها ومساعدتها لبقي ميتاً.
لا بُد أن أفتيخوس استفاد مما حدث، ولم يرجع ليجلس في الطاقة بل في الكنيسة بين العابدين والمصلّين، وحيث يجب أن يجلس.
- عدد الزيارات: 5733