Skip to main content

جلوس بطرس "بين"

القراءة: لوقا 54:22-62

التاريخ: 10/11/1974

يعلّم الكتاب المقدس أن يسوع أجلسنا معه في السماويات، في الأعالي، في مقامٍ لم نكن لنحلم به يوماً. أجلسنا في السماويات جلسة راحة لكي نستريح، وتستريح أعصابنا وتهدأ قلوبنا. صحيح أننا موجودون في العالم، ولكن هذا لا ينفي وجودنا مع المسيح في السماويات. فقصد المسيح أن يرفع أفكارنا وقلوبنا عن هذا العالم. ومع أنّ اقدامنا تسير في العالم لكن رؤوسنا هي دائماً إلى فوق؛ هذا هو القصد والترتيب الإلهي لنا. لكن السؤال هو أين تجلس أنت؟ نتأمل في هذا الموضوع من نواحٍ عدة، باختلاف الظرف وحرف الجرّ بعد "الجلوس":

جلوس بين    جلوس على

جلوس في    جلوس تجاه

جلوس عند   جلوس عن

جلوس تحت

فلنتأمل في الكلمة الأولى: جلوس بين. "ولما أضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا معاً، جلس بطرس بينهم" (لوقا 55:22)؛ ولنستخلص، بنعمة الرب، من هذه الجلسة بعض العِبَر لأنفسنا.

لماذا جلس بطرس بين الخدام؟ معظمنا يلوم بطرس في قلبه، وأنا أخشى، بعد أن نتأمل في عمل بطرس أن تتحوّل هذه الملامة الينا .

نجد أولاً أن بطرس جلس جلسة الخائف. جلس بين الخدام وكأنه يهرب من أمر ما. لقد أحسَّ بأن الآفاق الواسعة تضيق، وبأن مجرى الأحداث يتحوّل بشكل خَطِر مندفعاً نحوه، والنهاية راعبة. رأى يسوع يسير في طريق معيّنة طالما تخوّف من سيره فيها، فبدأت الهواجس تتسرّب إلى أفكاره وكأنه يقول: صدق ظني، ولكن لا بأس أريد أن اتابع القضية الى النهاية. كثيراً ما يكون الخوفُ سبب جلستنا بين الخدام. الجلسة غير طبيعية، ولو حاولنا أن نسأل بطرس لماذا تجلس هناك لوجدنا لديه أسباباً كثيرة: أضرموا ناراً في وسط الدار والجو بارد فجلسوا يستدفئون، وجلست معهم أستدفئ. لكن هذا لا يجعل الجلسة ملائمة وفي محلها. أحياناً كثيرة تكون عندنا ردود فعل، لا نعرف كيف نتصرف هذا التصرف ولكن السبب يكون مجرد رد فعل. نحاول أن نتجنب أمراً ما فنقع في أمر أصعب. نهرب من الحية كي لا تلسعنا فيلاقينا دب. نستطيع القول إن نفسية بطرس أوصلته الى وضع غير سليم ولا غرابة، ما دام بطرس قد نام وقت الصلاة.

نجد ثانياً أن بطرس جلس جلسة المتستّر. هل نجلس نحن أحياناً هذه الجلسة فنتستّر بين الخدام ونعتقد بأننا نستطيع أن نضيع؟ في حالٍ كهذه نفقد هُويتنا وبدل أن تكون النظرة إلينا نظرة فردية شخصية، تصبح النظرة عامة. فأنت ضمن مجموعة من الخدام من دون هوية، وإذ لم يكن أحد من هذه المجموعة يملك أية صفة خاصة به، استطاع أن يندسّ في هذا الصف ويضيع. لكن عين الله تنظر وتراقب كل واحد منا فلا نستطيع أن نختفي من أمام عينه. نزل بطرس الى الدهليز، واختبأ في غرفة داخلية، ولكن في الوقت المعيّن وعندما صاح الديك، نظر يسوع الى بطرس وكأنه استطاع بنظرته أن يخترق حاجز الخدام وأن يدخل الى الدهليز وأن يرى بطرس الخائف والمتستّر وأن يدخل الى صميم قلبه. لم ينبس يسوع ببنت شفة، ولكن كان في نظرته كل الكلام الذي يعني لبطرس ما عناه، فأخرجه الى خارج ودفعه إلى الاعتراف بفعلته وإذ ذاك قال: إني فرد ويجب أن أبقى فرداً فلا أخسر هُويتي، أنا وحدي اخرج الآن فرداً الى خارج واعبّر عن شخصيتي وعن هُويتي . وهكذا نجد أنّ بطرس أقرّ بأن جلسة التستّر هذه، مع كل ما تحويه من كلمات وشعارات، لا يمكن أن تخفي حقيقة وضع شاذ.

ونجد ثالثاً أن جلسة بطرس بين الخدام كانت جلسة المعاشرات الرديئة التي تفسد الأخلاق الجيدة. فبطرس بدل أن يؤثر في مجموعة الخدام، أثرت مجموعة الخدام فيه. كان بطرس منكّس الرأس خافض النظر أمام الخدام الذين كانوا أسياد الموقف. ويا للعار والخجل؛ لقد زجّ بطرس نفسه في عشرة رديئة فانصبّت الهجمات عليه من كل حدب وصوب. نحاول أحياناً أن نخفي نفوسنا وهويتنا بين الجماعة ولكن الجماعة نفسها لا ترضى، إذ تريد لنا أن نكون جزءًا منها أو لا نكون. نظن أحياناً أننا نستطيع أن نعاشر وأن نشارك وأن نساير، لكننا في ذلك مخطئون، لأن الجماعة لا ترضى، والعالم لا يرضى، والشيطان لا يرضى، والرب لا يرضى. لقد ظن بطرس أنه تدبّر أمره ورتّب أوضاعه وجلس مستريحاً، لكنه فوجئ حين وجّه واحدٌ ناظريه نحوه قائلاً: أنت منهم ولا تستطيع أن تكون منهم ومنّا في آن، أبرز هويتك. عندئذٍ اضطر بطرس أن يخفي نفسه وراء أجوبة خاطئة. وبعد قليل ارتفع صوت آخر قائلاً: إن استطعتَ أن تخدع نفسك وأن تخدع سيدك فإنك لا تستطيع أن تخدعنا. ومرة أخرى يجد بطرس نفسه في موقف صعب فيتنكّر لهويته. لا موقفَ بين بين، فإما أن أكون مع يسوع وإما ضد يسوع؛ إمّا أن أكون مع العالم مع الجماعة وإما لا أكون. ما أجمل المواقف التي نتخذها بكل فخرٍ واعتزاز. وتأتي خادمة لتشير إليه باصبع الاتهام فيجبن مرة اخرى، ولا غرابة، لأن الضعف الروحي هو نتيجة اندماجنا في أجواء غير روحية، فنمتصّ هذه الأجواء ونتأثر بها. عندما نكون خائفين ومتستّرين نفقد شخصيتنا فيستولي علينا الضعف. يستغلّ الشيطان ضعفنا هذا ويشن علينا هجوماً جارفاً وهكذا يستطيع بسهولة أن يوقعنا في حبائله وفي شراكه.

هذه العشرة الرديئة تعني الوقوف على حافة الارتداد. لا نُدفع دفعة واحدة ومرة واحدة من مكان الى مكان، بل إنّ الارتداد يحصل بالانزلاق رويداً رويداً حتى نرى نفوسنا وقد أصبحنا في وضع غير ملائم نفقد فيه الشهادة، فلا يبقى مجال للكلام بعد. وأفضل ما يقال إن الانسان يعجز عن تمجيد سيّده في أوضاع كهذه، إذ يجد نفسه أعقد اللسان مكتوف اليدين لأنه جلس "بين"، جلس قريباً من التجارب.

فالقضية ليست رفع شعارات واعتدادًا بالنفس وتعداد مآثر، بل اتخاذ مواقف عملية شجاعة. كلنا يعرف اندفاع بطرس وحماسته وادعاءاته. لقد صلى الرب لأجل بطرس لكي لا يفنى إيمانه. وكأني ببطرس يقول له: أتصلّي لأجلي يا رب؟ صلِّ لأجل توما ولأجل فيلبس، صلِّ لأجل غيري لا لأجلي. "أني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت" (لوقا 33:22). إزاء هذا الوضع أكّد له يسوع أن الديك سيكون شاهداً على كلامه وقبل أن يصيح الديك مرتين سينكره ثلاث مرّات.

مهما كان المؤمن عظيماً في إيمانه ومتقدماً في اختباراته، فهو عرضة للوقوع في التجربة إن هو اقترب إليها. فالشيطان أقوى مِن أقوى مؤمن لولا نعمة المسيح. وهو، بأساليبه الخداعة، يجعلنا نعتقد أننا لن نتأثر بالأجواء التي نوجد فيها، وهكذا يضرب الغرور حياتنا، ونعتدّ بأنفسنا؛ فنـزجّ بها في أماكن لا يرضى الرب عنها. فالرب وعدنا بأنه معنا ويحفظنا ما دمنا في مشيئته. لكننا نجد أنه ترك بطرس في وقت التجربة يتدبر أموره بنفسه، فكان عاجزاً عن فعل أي شيء، سوى أن يخرج الى خارج ويبكي بكاءً مرّاً. بيد أنّ الرب بنعمته ومحبته قَبِلَ توبته ودعاه من جديد.

إذاً، جلوس بطرس بين الخدام يعني الجلوس في مكان قريب من التجربة. يجب ألاّ يغيب عن بالنا أن الهرب في كثير من الأحيان هو للأبطال الشرفاء. وكما يقول الكتاب: "وأمّا أنت يا إنسان الله فاهرب من هذا"
(1تيموثاوس 11:6). فلو مرّ أحدنا من هناك ورأى بطرس جالساً بين الخدام سيبادره بالقول: "ماذا تعمل هنا يا رجل الله، تجلس بين المأجورين الذين يخدمون رؤساء الكهنة وينفّذون أوامرهم، هم يتجسسون على الناس محاولين إيقاعهم في حبائلهم وأشراكهم كي يشتكوا عليهم. هل ستفيدهم بشيء يا بطرس؟ أنت صاحب دعوة وهم أصحاب دعوة، أنت خادم وهم خدام أيضاً، لكن شتّان يا بطرس بين دعوتك ودعوتهم، هم خدام نفوسهم وأسيادهم، أما أنت فخادمٌ ليسوع.

لقد كثرت في هذه الأيام تسميات الخدام بحق وبغير حق. علينا أن نحترز ولا ننجرف وراء كلام وحركات وتسميات وشعارات ونشاطات هي بعيدة كل البعد عن الدعوة الإلهية.

ما أجمل أن نعود الى الكتاب لنجد التعاليم الصافية والنقية، فنعمل ما يُعلّمنا به، بدل أن نستخدم ذوقنا وضميرنا ونصغي إلى آراء الآخرين. إنّ المؤمنين في هذه الأيام الأخيرة لا يريدون التعليم كثيراً، وخصوصاً المواضيع التي تتطرّق الى النواحي الحساسة كالترتيب والمبادئ والنظم الكتابية، بل يفضلون الأمور الناعمة والمسلّية.

يذكر لنا الكتاب سلسلة مآسٍ حصلت جرّاء الجلوس في أماكن غير لائقة. ما الذي أوقع داود قديماً في التجربة؟ أليس لأنه صعد ليتمشى على السطح، ويراقب الناس، فيما الحرب على أشدها. زجّ نفسه في مكان وفي وضع غير ملائمين، فكانت النتيجة أنه سقط في الفخ.

ما الذي أوقع حواء في التجربة؟ لقد حذرها الرب من الاقتراب من الشجرة التي في وسط الجنّة، فلماذا اقتربت من وسط الجنة وتفرست في الشجرة التي في وسط الجنّة؟ كان ينبغي أن تبتعد عن ذلك المكان، ولا سيما أن امامها مساحات شاسعة من الأشجار التي تحمل ما لذّ وطاب من أنواع الثمار. فالشيطان يستغلّ هذه الجلسة تحت الشجرة المحرّمة لكي يوقع الجالس في التجربة

وماذا نقول عن لوط الذي كان "يعذب يوماً فيوماً نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" (2بطرس 8:2)؟ ولماذا وضعت نفسك في هذا المكان يا لوط وصاهرت أهل سدوم ؟ يسوّغ بعضهم وجوده هناك لعله يستطيع أن يربحهم للرب، لكن كانت النتيجة أنه جلب الويلات على نفسه وعلى عائلته.

وجلوس إشعياء النبي مع عزّيا الملك لم يكن بركة له، إذ طَوال المدة التي كان إشعياء فيها مع عزّيا لم يَرَ الرب جالساً على كرسي عالٍ. كان مشغولاً بالملك وبالبلاط الملكي بما فيه من مركز وجبروت وجاه، فيما كان الرب محضّراً له جلسة أخرى يستطيع فيها أن يرى رؤى الله.

وماذا نقول عن دينا التي خرجت لتتفرج على بنات الأرض. تعاشرهم وتجالسهم حتى تتعلم منهم وتتثقف بثقافتهم، علّها تتكسّب شيئاً جديداً، فكانت النتيجة مأساة، إذ قد جلبت العار على العائلة وتسببت بالمشاكل والخطر والحرب والانزعاج والتكدير. فقد كانت دينا في مكان غير مكانها وفي جو غير جوّها. أين تجلس أنت، هل تجلس بين الخدام؟

  • عدد الزيارات: 4849