أخطار عصر الفضاء
السماوات تحدث بمجد الله, والفلك يخبر بعمل يديه. يوم إلى يوم يذيع كلاماً وليل إلى ليل يُبْدي علماً لا قول ولا كلام, لا يُسْمَعُ صوتهم. في كل الأرض خرج منطقهم، وإلى أقصى المسكونة كلماتهم. جعل للشمس مسكناً فيها وهي مثل العروس الخارج من حجلته, يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق. من أقصى السماوات خروجها ومدارها إلى أقاصيها ولا شيء يختفي من حرّها!
ناموس الرب كامل يرد النفس, شهادات الرب صادقة تُصَيِّر الجاهل حكيماً. وصايا الرب مستقيمة تُفْرِحُ القلب,أمر الرب طاهر ينير العينين, خوف الرب تقي ثابت إلى الأبد, أحكام الرب حق عادلة كلها. أشهى من الإبريز الكثير وأحلى من العسل وقطر الشهاد. أيضاً عبدك يُحدّر بها وفي حفظها ثواب عظيم. السماوات من يشعر بها؟ من الخطايا المستترة أبرئني! أيضاً من المتكبرين احفظ عبدك فلا يتسلطوا عليَّ, حينئذ أكون كاملاً وأتبرأ من ذنب عظيم. لتكن أقوال فمي وقلبي مرضية أمامك يا رب صخرتي ووليي.
(المزمور التاسع عشر)
عصرنا هذا هو عصر الفضاء. فلقد غزا الإنسان المعاصر في السنوات الأخيرة الفضاء الخارجي بمخترعاته العديدة وتمكّن البعض من الخروج من نطاق كرتنا الأرضية والدوران حول الأرض لمدة ما. وكذلك نزل الإنسان على سطح القمر وعاد إلى الأرض سالماً وبصحبته نماذجاً من تربة القمر. من الممكن أن نُطلق أسماء أخرى على عصرنا هذا إلا أننا لا نكون مخطئين ولا مغالين إن دعوناه فوق كل شيء بعصر الفضاء.
ولا بد أننا نصاب بدهشة كبيرة كلما نسمع عن فتوحات جديدة يقوم بها الإنسان في الفضاء الخارجي. نحن لا نريد مطلقاً التقليل من شأن هذه الأعمال الباهرة ولكننا نرى أنفسنا كمؤمنين بالله من عصر الفضاء وخاصة من الفلسفة العامة التي تغذي الفتوحات الفضائية. مثلاً لا بد لنا من طرح بعض الأسئلة فنقول: هل يستفيد بنو البشر من هذه الرحلات التي تجري خارج نطاق أرضنا؟ الملايين من الأموال التي تُنْفَق كل يوم في سبيل غزو القمر والنجوم, ألا يستحسن بأن تُصرف على أرضنا هذه حيث الجوع والمرض يفتكان بالملايين؟ هل انتصرنا على سائر الأوبئة والأمراض المستعصية حتى نبرر انطلاقنا إلى الفضاء الخارجي. هناك مجالات واسعة جداً يمكن أن يُصرف فيها المال على أرضنا هذه كالاهتمام بالأعمال العمرانية البناءة, تلك التي تأتي بفوائد عديدة لسائر بني البشر. ألا يجوز لنا القول ونحن ملمين كل الإلمام ببعض الفوائد التي تأتي من غزو الفضاء الخارجي بأن هدفنا الدائم يجب أن يكون في العمل على هذه الأرض وعلى الإنسان لقريبه الإنسان.
وفوق ما تقدَّم من تحفظات عن الاهتمام الزائد بالفضاء الخارجي نشير أيضاً إلى الأخطار التي تصحب السفر إلى خارج نطاق أرضنا. خلل واحد في إحدى الآلات الكائنة في الصاروخ أو في المركبة الفضائية كافٍ لإرسال إنسان الفضاء إلى موت مريع. ولكن الخطر الأعظم الذي يجابه الإنسان- ليس فقط البطل المخاطر ضمن المركبة الفضائية- بل كل إنسان, كل عضو في البشرية المعاصرة هو خسران النفس والقيم الروحية التي تغذي النفس. قد نجد الإنسان في المستقبل القريب وهو يسير على النجوم وقد تغلب على كل الأخطار المادية التي تحيط باكتشافات الفضاء- لكن نصره ذلك قد يكون تحقق على حساب موته الروحي. لأن كل من ينسى الله تعالى ليس بمخلوق حي من وجهة نظر الحياة الحقيقية. أرواح الناس تموت عندما يتطلعون دائماً إلى الكون الشاسع ويحلمون بغزوه والانتصار عليه بدون أن يفتكروا بالله وبدون أن يعطه العبادة والتسبيح والمجد. أن الذي يمضي كل حياته وهو مسحور بالفضاء الخارجي وبدون أن يقول من أعماق قلبه كلمات ككلمات داود النبي في المزمور التاسع عشر يكون قد مات روحياً وخسر أعظم شيء في الوجود. "السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه" هذه هي الكلمات التي تعبر عن موقف المؤمن من عالم الفضاء الشاسع!
من المؤسف جداً أن برامج عصر الفضاء العلمية قد وُضِعت بهكذا صورة وتغذيها هكذا فلسفة حتى أنها- بغض النظر عن مصادرها- ذات غاية واحدة ألا وهي تمجيد الإنسان المخلوق لا الله الخالق تعالى اسمه. كل شيء يجري في فتوحات عصر الفضاء لكي تبهر أنظارنا ولكي نُؤخذ بمقدرة هذا الجانب أو ذاك. الإنسان المعاصر الذي نسي الله صار أشبه بموقف الناس في فجر التاريخ عندما شرعوا ببناء برج سُمّي فيما بعد برج بابل. نقرأ عن تلك الحادثة في سفر التكوين. فلقد قال أولئك الذين نسوا الله وأخذوا بمقدرتهم على تخليد ذكرهم: "هلم نَبْنِ لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء ونصنع لأنفسنا اسماً ..." ولكن الله بلبل لسانهم وبدّدهم على وجه المسكونة لأنهم لم ينشدوا مجد الله بل مجدهم الخاص.
ونحن عندما نقرأ عن اكتشافات الإنسان المعاصر وعن مآثره في غزو الفضاء علينا ألا ننسى أبداً أن الله الخالق هو الذي وهب الإنسان هذه الإمكانيات التي تجعله يتغلب على جاذبية الأرض ويطير في جو خال من الهواء. إن نسينا الله نكون قد وقعنا في وثنية عصرية أصنامها السيارات الاصطناعية والصواريخ الهائلة وأبطال المراكب الفضائية.
كيف ننجو من هذا الخطر الروحي؟ علينا أن نؤمن من قرارة قلوبنا بأن الله هو خالق كل شيء. وهذا أمر غير ممكن إن لم يحتل الكتاب المقدس عقولنا وقلوبنا. عندما نأخذ كلمة الله بشكل جدِّي ونجعلها تعمل في قلوبنا نحصل على قوة روحية منتصرة. وهذا الكتاب يبدأ بعبارات روحية كهذه: "في البدء خلق الله السماوات والأرض" الله هو الخالق, إنه باري الطبيعة بأسرها إن كانت في أرضنا هذه أو بعيدة عنا الملايين من الكيلومترات. أليس من المؤسف ألا يرى الإنسان المعاصر يد الله في الكون العجيب الذي خلقه؟ وقد تكلم الرسول بولس عن هذا الموضوع في رسالته إلى رومية قائلاً: "لأن أموره- أي أمور الله تعالى- غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدْرَكة بالمصنوعات" قدرته السرمدية ولاهوته, حتى إنهم بلا عذراً لأن الله تعالى أعلن ذاته بمجد وجلال في الكون, ألا نقدر أن نقول ذات الشيء عن وثنيي القرن العشرين انهم بلا عذر؟
لننجو من الوقوع في وثنية عصر الفضاء علينا أيضاً أن نؤمن بالمسيح يسوع إيماناً شخصياً قلبياً. فهذا الإيمان وحده يعطينا شركة روحية حيوية نتغلب بها على أمواج الإلحاد المعاصر التي تنقضّ علينا من كل حدب وصوب. فالمسيح يسوع هو كلمة الله الأزلية وبواسطته خلق الله كل ما في الوجود. فقد كتب الرسول يوحنا في مقدمته للإنجيل المعروف باسمه ما يلي:
" في البدء كان الكلمة, والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو1:1-2) وتكلم عن الموضوع ذاته الرسول بولس إلى مؤمني كولوسي قائلاً: "فإنه فيه- أي السيد المسيح- خُلِقَ الكل, ما في السماوات وما على الأرض, ما يُرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم رياسات أم سلاطين الكل به وله قد خُلِق" (1: 16? 17) .
وكتب صاحب الرسالة إلى العبرانيين في المقدمة قائلاً عن السيد المسيح: "الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة, كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء, الذي به أيضاً عمل العالمين" (1: 1? 2) الرب يسوع المسيح الذي انتصر على الموت والجحيم هو الآن في السماء وهو يسيطر على كل ما في هذا الكون وهو أيضاً يقول لنا بواسطة كلمة الإنجيل: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم"
(متى 11: 28) وهو لا يبغي مطلقاً أن نسقط في تجربة عصر الفضاء وننسى الله تعالى فنخسر حياتنا الأبدية.
أتود إذا أن تتسلح ضد أخطار عصر الفضاء؟ آمِن بالمسيح يسوع الذي جاء إلى عالمنا هذا ومات عنا على الصليب حاملاً بذاك خطايانا وأسقامنا. فعندما تعترف بالمسيح يسوع كربٍّ ومخلص تستطيع أن تعيش بدون خوف أو وجل في عصر الفضاء والذرة قنبلة الخمسين مليون طن, لأنه مهما حدث في عالمنا الصغير ومهما تجبّر الإنسان وطغى وتوعّد وأنذر فإن السيد الرب يبقى في السماء على عرشه ويحفظنا بعنايته الفائقة من الأخطار الجسدية والروحية التي تهدد حياتنا في النصف الثاني من هذا القرن.
"السماوات تحدّث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه" هل تقدر أن تتفوه بهذه الكلمات من أعماق قلبك؟ إن كنت تستطيع أن تقوم بذلك فاعلم أنك قد انتصرت على سائر مخاطر عصرنا هذا, عصر الفضاء, لأنك تكون قد اعترفت بأن الله خالق الكون هو حاميك والمعتني بك في هذه الحياة وفي الحياة الآتية. ولذلك تقدر أيضاً أن تقول مع المرنم الذي جابه أخطاراً عديدة في حياته وانتصر عليها بعون الله: "الرب نوري وخلاصي ممّن أخاف؟ الرب حصن حياتي ممّن ارتعب؟ عندما اقترب إلي الأشرار ليأكلوا لمحمي, مضايقيّ وأعدائي سقطوا". سِتْرٌ هو الملجا كذاك لي يُرجى عساكر الأعدا أجواقهم تردى تحمي من الخطر دُعا بني البشر نهاية السلام والتاج في الختام تحت جناحي القدير لكل مختار بصير يسقط عن يمينه يرى بمرأى عينه يد القدير ذي العلا وأذنه تصغي إلى تنال عيشاً مكرما ثم الحصول في السما.
- عدد الزيارات: 7219