Skip to main content

الفصل السابع: المسيحيون، صانعوا النهضة الحديثة

لمّا بدت علامات الشيخوخة تأخذ طريقها إلى جسد الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، حاول السلاطين أن يبعثوا فيه الحياة، فخلقوا بما يعرف بـ "التنظيمات"، التي من أهم بنودها المساواة بين رعايا الدولة. هذا النموذج الغربي أدى إلى حدوث تغييرات كثيرة في شتى مجالات الحياة وسمح للمسيحيين بالمشاركة الفعالة في نهضة المجتمع العربي.

ولا مراء أن المدارس المسيحية، كما في الماضي،  لعبت الدور الأهم في الترقي العلمي والأدبي، لاسيما بعد قدوم الإرساليات المسيحية إلى الشرق، اليسوعيين والدومنيكان والبروتستانت. وقد أنشأ المسيحيون بمختلف طوائفهم مدارس خاصة خرَّجت طبقة من المتعلمين تتميز بثقافة عالية وبمعرفة ممتازة للغة العربية. منها مدرسة عين ورقة وعين تراز وبكفيا وزحلة وحمص ووادي النصارى وحلب. وأقام المرسلون البروتستانت سنة 1835 في بيروت أول مدرسة للإناث، وفي سنة 1846 أسسوا مدرسة لاهوتية في عبيه، ثم سنة 1866 أسسوا الكلية السورية الإنجيلية في بيروت. [264] عقب ذلك قدم إلى المنطقة رهبانيات عديدة منها "إخوة المدارس المسيحية"، ولها يرجع الفضل في إقامة كلية بيرزيت سنة 1924 في فلسطين.[265]

كانت للمدارس المسيحية مناهج خاصة بها مع الحرية في اختيار لغة التعليم. وحرصا منهم على اللغة العربية أقبل المسيحيون على إتقانها والتعليم بها، وبذلك سبقوا المدارس الحكومية التي كانت تعلم باللغة التركية؛ "وكانت الدروس العربية في كل هذه المدارس راقية، فإن منها خرج معظم الذين اشتهروا بالكتابة في القرن المنصرم (التاسع عشر)، وخصوصا بين النصارى".[266] واستطاع المسيحيون أن ينشئوا التعليم العربي الحديث في مدارسهم وتخريج  جملة من الأدباء، ممن أقبلوا على اللغة العربية يكشفون أسرارها وينقبون عن مكانزها. فكان ذلك دعماً للغة العربية ولازدهار بيانها.

ويعتبر الاهتمام باللغة العربية ومحاولة إحياءها العامل الأساسي لحركة النهضة العربية في القرن التاسع عشر. أما بذور النهضة فترجع إلى ما قبل ذلك، ويمكن تتبع آثارها في أعمال المطران جرمانوس فرحات من القرن الثامن عشر في حلب، الذي وضع مؤلفات عديدة وقيمة في النحو والصرف وإعراب المفردات، لعل أهمها "بحث المطالب"، الذي يعتبره البعض أول كتاب وضع في ضبط قواعد الصرف والنحو للغة العربية. مع مطلع القرن التاسع عشر لمع جملة من الأدباء والمفكرين المسيحيين كان لهم الشأن المهم في ترقية الآداب العربية وبلورة الفكر العربي القومي الحديث، فوصفوا بحق "أركان النهضة العربية". من هذه القافلة: [267]

1 - المعلم بطرس البستاني.

ولد سنة 1819 في دبية - لبنان. له "محيط المحيط"، وهو أول قاموس وضع  في  شرح

---------------------------------

264 - نالت شهرة واسعة تحت نظارة الدكتور دانيال بلس ومساهمة الدكتور كرنيليوس فان دايك، وقد تسمت فيما بعد بالجامعة الأمريكية. راجع: لويس شيخو، تاريخ الآداب العربية، ج1 فصل2

265 - أقيمت المدرسة بهمة السيدة نبيهة ناصر في بيت والدها القسيس حنا ناصر، ثم تطورت إلى كلية فجامعة خرّجت العديد من الشخصيات الفلسطينية المرموقة. (دراغمة، عزيز. الحركة النسائية في فلسطين، مكتب ضياء للدراسات، ص 172).

266 - لويس شيخو، تاريخ الآداب العربية، ج1 ص 51

267 - مراجع هذا الجزء: 1 - المساهمة المسيحية في فكر النهضة العربية  بقلم: الأرشمندريت إيليا طعمه 2 – تاريخ الآداب العربية، لويس شيخو 3 – المنجد في الأعلام 4 - الصحافيون المسيحيون الحلبيّون في العصر الحديث، الأرشمندريت اغناطيوس ديك

المفردات العربية، وله "دائرة المعارف" وهي أول موسوعة معرفية عربية.[268] كما واشترك  في  ترجمة  الكتاب  المقدس إلى العربية،[269] وعمل على نشر مبدأ العدالة وفصل السلطات في الدولة وإدخال التعليم الإلزامي. ويعتبره البعض أول من دعا إلى تعليم المرأة في الشرق. أنشأ بطرس مع ابنه سليم أربع صحف ومجلات: "نفير سوريا"، "الجنة"، "الجنان"، "الجنينة". له ينسب شعار "حب الوطن من الإيمان".

2 - الشيخ ناصيف اليازجي.

ولد في قرية كفر شيما – لبنان سنة 1800 وسط عائلة أصولها من حمص. اهتم بالنحو والبلاغة والعروض ولعب دورا كبيرا في إعادة استخدام اللغة الفصحى. حضنته الجامعة الأمريكية فصنف مجموعة من المؤلفات اللغوية تعتبر بعث اللغة العربية في العصر الحديث. وقد شارك هو الآخر مع المرسلين الانجيليين في ترجمة الكتاب المقدس، ونظم مجموعة كبيرة من الترانيم الروحية للكنيسة البروتستانتية.[270] من مؤلفاته القيمة: "نار القرى في شرح جوف الفرا" وهو في الصرف والنحو، وأيضا "فصل الخطاب في أصول لغة الأعراب"، وهي رسالة في التوجيهات النحوية، و "عقد الجمان في علم البيان"، و "قطب الصناعة" في أصول المنطق.

3 - الشيخ إبراهيم اليازجي.

هو ابن ناصيف من مواليد 1847. شاعر وأديب ومفكر وصحفي، أتقن السريانية والعبرية. له "نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد". أسس مجلة "الضياء" وحرر جريدة "النجاح"، وأعان اليسوعيين في تنقيح ترجمتهم للكتاب المقدس. هو صاحب البيت الشهير "تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب".

4 - الفيكونت فيليب دي طرازي.

سرياني من مواليد بيروت سنة 1865. ترجع أصول عائلته إلى حلب والموصل. أتقن العربية و الفرنسية و اللاتينية و اليونانية القديمة، وأسس دارالكتب الوطنية في بيروت، التي ترأسها بنفسه 20 سنة. من مؤلفاته: "خزائن الكتب العربية في الخافقين" (أربعة مجلدات)، و" بحث تاريخي  علمي  عن  القرآن"،  و"إرشاد  الأعارب  إلى تنسيق الكتب في المكاتب"، و "عصر السريان الذهبي" و " تاريخ الصحافة العربية"، وهو الكتاب الأول و الوحيد من نوعه في اللغة العربية.

5 - فرنسيس مراش.

أديب مسيحي حلبي، تلقى علوم الطبّ في حلب وتعلم علوم العربية وآدابها. حارب الاستبداد وطالب بالمواطنة. بعد أن فقد بصره في سن مبكرة، انكب على التأليف حتى وفاته سنة 1874.‏ وأشهر رواياته "غابة الحق". ويعتبرها بعض النقاد أول رواية عربية.

6 - يعقوب صروف.

أديب وعالم وصحفي ومترجم. ولد سنة 1852 في الحدث – لبنان. أصدر وحرر عدة صحف ومجلات وكان له الفضل بتقريب مناهل العلوم الغربية إلى قراء العربية فأغنى المكتبة العربية بترجمته المؤلفات الرياضية والفلسفية والعلمية وبأبحاثه المتواصلة في مجلة المقتطف.

7 - لويس معلوف.

من علماء العربية وأعلام النهضة الحديثة في مجالي النشر والإعلام. ولد في زحلة - لبنان سنة 1867. درس الفلسفة واللاهوت وأتقن عدة لغات. هو صاحب القاموس الشهير "المنجد في اللغة العربية".

8 - خليل خوري.

شاعر وكاتب وأديب، ولد في الشويفات - بلبنان سنة 1836. أسس جريدة "حديقة الأخبار"، واشتهر بروايته "وي إذاً لست بإفرنجي"، وقيل فيها "باكورة الروايات العربية".

------------------------------

268 - قال د.عبد الكريم اليافي عن محيط المحيط: "جامعاً لكل ما يحتاج إليه المتعلم والباحث في حدائق التراث وبساتين اللغة ومتداول الكلم والمصطلحات. وأولى مزاياه الشمول والتجميع والإحاطة والإيجاز والدقة إلى مدى بعيد. ويكاد يغني عن معجمات عدة ومراجع قديمة ومستجدّة " مجلة التراث العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق – العدد : 48 - السنة 12 - تموز "يوليو" 1992

269 - نشأت الترجمة بهمة المرسلون الإنجيليون عالي سميث وكرنيليوس فان دايك. هي الأكثر انتشارا بين الترجمات، وتصدر عن دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.  يذكرها شيخو في تاريخ الآداب العربية ج2 فصل 2

270 - نشرت معظمها في كتاب الترانيم الروحية، مكتبة المشعل الانجيلية الوطنية – بيروت 1965

9 - الأب أنستاس الكرملي.

لغوي وأديب عراقي لبناني. ولد في بغداد سنة 1866. دعا إلى التصحيح اللغوي وكان يرى في الخروج على العربية خطئاً لا يمكن قبوله أو التساهل فيه. له  معجم  "المساعد"،  و "أغلاط اللغويين الأقدمين"، و"نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها". ولعله من ابرز علماء اللغة العربية المحدثين الذين ساهموا مساهمة حقيقية في إثراء العربية ومصطلحاتها ومرادفاتها. من ملاحظات الكرملي على الترجمة العربية للإنجيل، أن الصلاة الربانية يشوبها بعض الخلل في صياغتها. فقال: "قولهم ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض هو غير فصيح، ولا يجوز أن يقال مثل ذلك التعبير. والذي نراه لائقا بالله ... تقدس اسمك، أتى ملكوتك، كانت مشيئتك ... أما أنه لا تقول العرب ليأت ملكوتك ونحوه، فلأنها لا ترى من اللائق بجلالته وعزته أن يؤمر، بل أن يتمنى الشيء منه تمنيا". [271]

10 - الأب لويس شيخو.

سرياني من مواليد ماردين بالجزيرة الفراتية سنة 1859. انتقل إلى بلاد الشام وتعلم في مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير بلبنان. هو منشئ مجلة المشرق في بيروت، له مؤلفات عديدة قيمة، منها: "المخطوطات العربية لكتبة النصرانية"، و"شرح مجاني الأدب في حدائق العرب"، و "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية".

11 - سليم سركيس.

صحفي وأديب لبناني. ولد في بيروت سنة 1869، عمل في سن باكرة من عمره في مجلة "الجنان". أنشأ في لندن جريدة "رجع الصدى"، وفي باريس جريدة "كشف النقاب"، وفي الإسكندرية جريدة "المشير". له كتاب "غرائب المكتوبجي" أهداه إلى السلطان عبد الحميد الثاني، وفيه نقد جريء للسلطة العثمانية، وبدأ الإهداء بجملة "مولاي يسوؤني إنني من جملة رعاياك". صدر على أثرها حكم بإعدامه، فهرب إلى أميركا.

12 – لويس صابونجي.

سرياني مولود سنة 1838 في ديار بكر بالجزيرة الفراتية. تلقى العلوم العقلية والنقلية على اختلافها. أنشأ في بيروت مدرسة صار لها شأن نهضت بأسباب التربية الحديثة. هو أول من أدخل فن التصوير الشمسي إلى لبنان. عهد إليه السلطان عبدالحميد بتعليم أنجاله. أنشأ مجلة "النحلة" و جريدة "الاتحاد العربي" وجريدة "الخلافة"، كما عمل محررًا في صحيفة "مرآة الأحوال". كان عضوًا في المجلس الكبير لنظارة المعارف على عهد السلطان عبدالحميد. له: "أصول القراءات العربية والتهذيبات الأخلاقية" و "قاموس الألفاظ والمصطلحات العلمية في الفلسفة وغيرها من العلوم والفنون" و"فلسفة ما بعد الطبيعة".

يطول بنا الحديث عن جميع رواد النهضة العربية، لذا توجب الاختصار. فأذكر منهم عابرا:

أديب اسحق - جبرائيل الدلال- جبران خليل جبران- جرجي زيدان- فيليب حتي- أمين الريحاني- ميخائيل مشاقة- سعيد فاضل عقل- سليم البستاني ابن بطرس- بطرس البستاني رئيس أساقفة صور وصيدا- الأب جرجي جنن، وله "مغالط الكتاب ومناهج الصواب"- رشيد الشرتوني، وله "مبادئ العربية" وهو في الصرف والنحو- خليل السكاكيني، وله "الجديد في القراءة العربية" أربعة أجزاء- قسطاكي حمصي، وله "منهل الوارد في علم الانتقاد" في 3 أجزاء- شبلي الشميل- الموصلي اقليمس يوسف داود - المعلم إبراهيم سركيس، وله "نزهة الأفكار في أطايب الأشعار" و"الدرة اليتيمة في الأمثال القديمة"- نجيب حبيقة - إسكندر آغا ابكاريوس، وله "روضة الادب في طبقات شعراء العرب" و "نهاية الأرب في أخبار العرب"- بطرس كرامة - سليم تقلا - بشارة تقلا - نوفل بن نعمة الله نوفل، وله "زبدة الصحائف في أصول المعارف" - يوسف الشلفون - فارس الشدياق - المطران يوسف الدبس - عبد الله مراش - جميل نخلة المدور، وله "تاريخ بابل وآشور" و "حضارة الإسلام" - بشارة زلزل، وله "تنوير الأذهان في حياة  الإنسان والحيوان" -  اسعد يعقوب الخياط -  جرجس عبد يشوع خياط - القس يوسف داود، وله "تنزيه الألباب، في حدائق الآداب" و"جني الأثمار، من لطائف الأخبار" - المطران جرجس عبد يشوع الموصلي، وله "روضة الصبي الأديب في أصول القراءة والتهذيب" - مارون عبود - نجيب الحداد - رشيد الدحداح، وغيرهم.

---------------------------

271 - مشير باسيل عون، الفكر العربي الديني المسيحي، ص 114

  • عدد الزيارات: 6181