Skip to main content

الفصل الثالث: ميلاد طائفة مسيحية جديدة

مارتن لوثر والنهضة الروحية

انحدر المستوى الروحي للكنيسة الكاثوليكية في أوربا في العصور الوسطى حتى وصلت إلى أدنى درك في القيم الأخلاقية وأصبحت مركزا لبلاط الغنى العالمي الفاسد أكثر منها قيادة روحية للشعب، الذي حرم من كل بركة إلهية مجانية. فبات المؤمن يدفع لكل خدمة تقدم له، والأبشع من ذلك، أنه دفع من أجل "صكوك غفران" باعتها الكنيسة بمرسوم بابوي.

تولدت نتيجة هذا الوضع حاجة ماسة إلى الإصلاح داخل الكنيسة. فنهض وليم أوكهام ومارسيليوس البادوفي ينتقدان الفساد ويدعوان إلى الإصلاح. وجاء ويكليف (1328 – 1384) ليضع كلام الله فوق كل سلطة أخرى. ثم عقبه جون هس (1373 – 1415 ) الذي دين بالهرطقة وحكم عليه بالموت حرقا.

هؤلاء وغيرهم مهدوا لقيام الراهب المصلح مارتين لوثر في مطلع القرن السادس عشر، ومعه قامت حركة الإصلاح التي سميت البروتستانت، أي المحتجين، والتي ما لبثت أن تطورت لتصبح طائفة مسيحية جديدة تنادي بالسلطة المطلقة للكتاب المقدس، الذي ترجمه لوثر إلى الألمانية الدارجة.

نادى لوثر وأتباعه بكهنوت جميع المؤمنين، وبإمكانية الغفران المجاني بالإيمان دون الحاجة إلى وساطة كنسية وصكوك غفران بابوية، وأن الخلاص يأتي نتيجة علاقة شخصية مباشرة بين المؤمن وإلهه على أساس فداء المسيح بالموت والقيامة.

تُرجم الكتاب المقدس وانتشرت المعرفة الروحية، التي خلقت في أوربا تغييرا في الحياة الشخصية وعلى الصعيد الاجتماعي والسياسي والفكري والديني، وقادت المواطن العادي البسيط إلى التحرر الفكري وأوجدت أمامه عالما مفتوحا من الإمكانية الروحية والعقلية. فازدهر الأدب والعلم وتأسست مدارس لاهوتية عريقة في ألمانيا وانجلترا.

انبثقت عن الكنيسة البروتستانتية الأم حركات انجيلية عدة شعرت بمسؤوليتها تجاه العالم. فتأسست في أوربا مئات الإرساليات التبشيرية، كان جل قصدها إبلاغ رسالة الخلاص الإنجيلية إلى  العالم أجمع. ونشأت جمعية  الكتاب  المقدس، الذي ترجم إلى لغات كثيرة بلغ عددها مع نهايات القرن العشرين أكثر من 2000 لغة ولسان.

البروتستانت في بلاد العرب [174]

لم تستثنى المسيحية المشرقية من الإصلاح البروتستانتي، إذ مع مطلع القرن التاسع عشر قدمت الحركات التبشيرية الإنجيلية إلى العالم العربي وساهمت مساهمة فعالة في نهضة المسيحية العربية على صعيد العلوم الدينية والدنيوية،  وكانت

-----------------------------

174 - المعلومات مستقاة من:1 - تاريخ الاداب العربية، الأب لويس شيخو 2 - المسيحية في سوريا، الارشمندريت أغناطيوس ديك 3 - السينودس الانجيلي الوطني في سوريا ولبنان 4 - تاريخ الكنيسة القبطية، القس منسى يوحنا 5 -  المجموعات العرقية والمذهبية في العالم العربي ـ ناجي نعمان

المقدمة لهذه النهضة ترجمة الكتاب المقدس ونشر تعاليمه بين عامة الشعب المسيحي. ويعود تاريخ بدء نشاط الإرساليات الإنجيلية إلى العام 1819 في فلسطين وسوريا، وقد تركز  ذلك  النشاط  بداية  في  بيروت  وما حولها، بعد  أن وصل إليها مرسلان هما القس إسحاق برد، والقس وليم غودل سنة 1823 م. ومن بيروت أخذت الإرساليات الانجيلية بتأسيس المطابع ودور النشر والمدارس والكليات. منها، المدرسة الانجليزية، والكلية الأميركية، ومستشفى العصفورية، وميتم صيدا المعروف بدار السلام. ومن أهم الإنجازات، تأسيس الكلية السورية الإنجيلية في بيروت عام 1866، التي درّست العلوم الطبية والطبيعية والدينية والعقلية والأدبية والفلسفية باللغة العربية.

اشتهر من المرسلين ألأمريكان الدكتور عالي سميث والدكتور طمسون والدكتور فان دايك وهنري فورست. وللأخيرين، بحسب وصف الأب شيخو، مآثر حسنة من مقالات نشرت في المجلة الشرقية الأمريكية التي كانت تباري بمقالاتها المجلات التي تقدمتها. وقد انكب هؤلاء المرسلين على درس اللغة العربية حتى أتقنوها، وكان من ثمار اجتهادهم ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية.

وصل المرسلين إلى مدينة صيدا وتأسست فيها سنة 1849 كنيسة رعاها كل من القس جورج فورد والقس وليم أدي، كما وعملوا على تأسيس مدرسة لتعليم الصغار مبادئ القراءة والحساب وبعض المهن من نجارة وحدادة.

وكانت الكنائس الانجيلية الحرة في اسكتلندا وايرلندا قد اختارت إرسال المبشرين جراهم وألن إلى دمشق. وفور وصولهما سنة 1843 بدءا بتوزيع الكتاب المقدس والوعظ والكرازة والخدمة في المنازل. وفي سنة 1846 انضم إلى الإرسالية في سوريا القس جيمس برنت، والدكتور بولدنغ. ولم يمضي على وجود المرسلين بضعة سنوات حتى افتتحوا في دمشق عيادة طبية مجانية، ومدرستين، وفي سنة 1866 افتتحوا كنيسة باب توما.

وفد العديد من المرسلين إلى سوريا في تلك الفترة الزمنية، وتأسست كنائس في اللاذقية والغسانية والغنيمية وحمص وغيرها من مدن وقرى سورية. واعتنت الكنائس الإنجيلية بنشر المعرفة بواسطة المدارس الخاصة التي أشادتها في ظهر  الكنائس. ولم تقتصر الرسالة الإنجيلية على التبشير بحق الإنجيل، وإنما تعدتها إلى مساهمة في المجالات الاجتماعية والعلمية والاعتناء الصحي.

في القدس أقيم أسقف مشترك للأنكليكان واللوثريين، وأشعوا بمدارسهم ومؤسساتهم الخيرية والطبية في سائر أنحاء فلسطين وشرق الأردن. يقول الأرشمندريت اغناطيوس ديك: "لم ينجم عن الرسالات الإنجيلية قيام مجموعات كنسية كبيرة إذ ظل الانتماء إلى الإنجيليين محدوداً وضئيلاً. إلا أنها أدت على المستوى الثقافي دوراً يفوق عدد مؤمنيها وكانت حافزاً للكنائس الشرقية لتجدد أساليبها الرعوية والتعليمية". [175]

مع نهاية القرن التاسع عشر وفد المرسلون الإنجيليون إلى الجزيرة الفراتية، وتحديداً إلى الجزء الواقع في الجنوب الشرقي من تركيا الحالية. اشتهرت منهم مرسلة أمريكية لقبت مدام ترتل، جاءت إلى ماردين وعملت على نطاق واسع في كل نواحي ولاية ديار بكر. فافتتحت في قرى عديدة كنائس صغيرة تضمنت مدارس لتدريس الكتاب المقدس للأطفال. وكانت مدينة مديات نقطة انطلاق للحملات التبشيرية، حيث نشأت جماعة إنجيلية من المثقفين والوجهاء وسم عليهم أسقفاً عبد المسيح حنوش.

بعد المذابح التي جرت لمسيحيي تركيا مطلع القرن العشرين، نزح السريان إلى القسم السوري  من  الجزيرة  الفراتية وأسسوا مدينتي القامشلي والحسكة. معهم جاء الإنجيليون من مديات وما حولها وأسسوا في الجزيرة عدة كنائس ومدارس خاصة اشتهرت بتعليمها العالي.

--------------------------------

175 - الارشمندريت أغناطيوس ديك "المسيحية في سوريا"، المجلد الثالث، من الفتح العثماني إلى مطلع الألفية الثالثة.

أما مصر فقد دخلتها الإرساليات الإنجيلية كذلك الأمر في منتصف القرن التاسع عشر، وقدومهم كان له رد فعل عنيف من جانب الأقباط. ويعتقد أن أول مرسلين وصلا إليها هما مستر لانش و يوحنا هوج. فأسسوا بداية الكنيسة الإنجيلية المشيخية الأولى في منطقة درب الجنينة بحي الموسكي بالقاهرة سنة 1860م. بعدها ببضعة سنوات نشأت كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ولها يعود الفضل في تخريج العديد من الخدام والمرسلين في مصر وباقي الدول العربية.

اهتمت الكنيسة الإنجيلية في مصر بالتعليم واعتبرته جزءاً من رسالتها الأساسية، فأقامت أول مدرسة للبنات في حارة السقايين بالقاهرة في يونيو 1860م.، وكلية أسيوط سنة 1865، وكلية رمسيس للبنات سنة 1910م. والتي تعتبر أكبر مدرسة لغات للبنات في مصر. يضاف إلى هذا عملهم الجليل في المجال الطبي والاجتماعي، كالاهتمام بالمعاقين والأيتام والمكفوفين، وإدارة مستشفياتهم الخاصة. ولا نهمل ذكر نشاطهم ضمن مشروع محو الأمية في صعيد مصر.

توسع الإنجيليون في نشاطاتهم الكرازية في بلدان الخليج العربي والعراق وشمال إفريقيا. فكانوا أداة لنهضة إصلاحية نوعية أعادت للمسيحية مركزها الكرازي.

  • عدد الزيارات: 4231