الفصل السادس: مصير المسيحيون العرب الأقحاح
ألاندثار
حسم المسلمون الحرب العسكرية لصالحهم وصبوا جل اهتمامهم على أسلمة بني جنسهم من عرب. وقد نجحوا إلى حد كبير في استمالة بعضهم إلى الإسلام، كما وأسلم البعض الآخر تحت تهديد السيف والجزية والتهجير.
انضم جميع مسيحيي البحرين العرب إلى الدعوة الجديدة ولم يبق في البحرين مع حلول القرن الثامن للميلاد مسيحيين عرب، سوى قلة من القبائل الرحل كبني صالح، الذين تمسكوا بنصرانيتهم حتى عصر الخليفة المأمون. أما المسيحيين من غير العرب فبقوا إلى ما بعد ذلك، حيث أعادت الكنيسة النسطورية ترتيب أمورهم، لكنهم ما لبثوا أن انحدروا هم أيضا في طريق الزوال إلى أن انقرضوا تماما من شرق الجزيرة.
وصل أهل نجران اليمنيين إلى الكوفة واستقروا فيها بعد أن أجلاهم عمر بن الخطاب عن الجزيرة العربية، فانضمّوا إلى المذهب النسطوري عام 791. وفي فترة ما من تاريخها، انضمت أبرشيتهم إلى أبرشية بني معدّ. كان يوحنا آخر أسقف سامه البطريق باسيليوس الأول من القرن العاشر عليهم، ومعه انتهت أبرشية النجرانيين في العراق، الذين افتقروا وضعفوا جدا بسبب التهجير. ولمّا لم يعد بمقدورهم دفع الجزية أسلموا تدريجيا، سعيا للخلاص من بؤس العيش، إلى أن تآكلوا تماما. يقول فلنهاوزن بأن عددهم في العراق كان قد تناقص على عهد عمر بن عبد العزيز إلى أن بلغ عشر ماكان عليه.[150] لكن المسيحية في اليمن بقت قائمة لفترة طويلة بعد الإسلام، وكان مار بطرس أسقفاً لنجران وصنعاء في القرن الثامن الميلادي، بل وتشير أخبار كنسية إلى وجود أساقفة نساطرة هناك حتى القرن الثالث عشر.[151]
ضعف العرب المسيحيون في العراق، إذ قتل منهم الكثير، ودخل بعضهم في الدين الجديد بسبب الفقر، ورحل بعضهم الآخر عن البلاد إما طوعا أو عنوة. بيد أن الإسلام لم يتمكن من السيطرة على القبائل العربية المسيحية بأكملها إلا بعد قرون، وبعد أن كانت الحيرة والأنبار، أهم المعاقل المسيحية في العراق قد خربت تماما بسبب هجمات الأعراب المتتالية بقصد القتل والنهب.
رغم المعاناة الشديدة بقيت مسيحية العرب في العراق لزمن طويل حية وثابتة، وكانت موضع فخر واعتزاز لقبائلهم. في نص رسالة لإسحاق الكندي وجهها إلى صديقه عبد الله بن إسماعيل الهاشمي في أيام المأمون جاء: "فقد علم كل ذي علم ولب كيف كانت ملوك كندة الذين هم ولدونا وما كان لهم من الشرف عند سائر العرب. لكننا نقول ما قاله رسول الحق بولس ألا من يفتخر فليفتخر بالله والعمل الصالح فإنه غاية الفخر والشرف. فليس لنا اليوم فخر نفتخر به إلا دين النصرانية الذي هو المعرفة بالله".[152]
في بلاد ما بين النهرين عاشت أبرشية تغلب قوية إلى ما بعد القرن العاشر الميلادي. وكان التغالبة يُنَّصرون أولادهم، رغم الاتفاق المبرم والقاضي بعكس ذلك. ويظهر المؤرخون أسماء عرب مسيحيين من التغالبة وغيرهم تؤكد
-----------------------------
150 - يوليوس فلنهاوزن، تاريخ الدولة العربية ص 291
151 - لويس شيخو، النصرانية وآدابها ج1 ص 67. راجع أيضا الدكتور جواد علي في المرجع السابق، فصل 80
152 - المسيحية العربية وتطوراتها، سلوى بالحاج، ص 82
استمرار المسيحية العربية بعد الاحتلال الاسلامي للعراق والجزيرة الفراتية بزمن طويل. من هؤلاء يوسف الموالي للمطران دنحا التكريتي، وداود اسقف التغالبة على جزيرة ابن عمر والموصل، وعثمان الذي رسمه البطريق قرياقوس وهو من الذين حضروا مجمع تكريت سنة 835 تحت رئاسة ديونسوس الأول، والقس دانيال الطائي. [153] يقول الأب ميشال نجم: "وأهم مرجع عندنا هو أبو نصر يحي بن جرير التكريتي السرياني الذي توفي عام 1079 والذي أورد في الفصل الرابع والخمسين من كتابه الموسوم "بالمرشد" أنه كان بين العرب مسيحيون كبني تغلب مثلا وبعض اليمنيين وغيرهم، وكان بينهم اسقف يرافقهم في ترحالهم مصطحبا المذبح من مكان إلى آخر. وحتى سنة 912 م كان بعض المسيحيين العرب يردون تكريت لشراء القمح. وفي تلك السنة سقف مطران تكريت رجلا تعبد بالمسيحية من العرب النصارى. فكان يتلو القداس لهم بالعربية".[154]
تراجع الوجود المسيحي العربي في الجزيرة الفراتية في القرن العاشر نتيجة دمار العديد من المراكز المسيحية، ولم تكن الكنيسة اليعقوبية أو النسطورية قادرة بعد على إحياء المسيحية بين أتباعها من العرب بسبب انكماشها لمَا تعرَضت له من مضايقات. فتعرّضت قبيلة تغلب لنكسات نتيجة للحرب الداخلية التي وقعت بين عشائرها والتي يشير إليها البحتري في قصيدتين. وفتك القرامطة بالتغالبة في منطقة نصيبين، مما قاد الكثيرين منهم للعودة إلى البحرين، وكان ابتعادهم عن المحيط المسيحي عاملا مساهما في تلاشي أبرز قبائل العرب المسيحية.
في سوريا تمكّن الخليفة المهدي العباسي حوالي سنة 780م من تحويل نصارى تنوخ المقيمين بجهة حلب، وبني سليخ المقيمين في قنسرين إلى الإسلام. وكان حين دعاهم إلى الإسلام أبوا تلبية الدعوة فضرب عنق رئيسهم ابن محطّة فأسلم الباقون خوفا. وهدم على أثرها كنائسهم وأكره 5000 منهم على دخول الإسلام.[155] أما في تدمر فقد تمسكت قبيلة كلب بنصرانيتها لفترة من الزمن.
مع حلول القرن الحادي عشر كانت المسيحية العربية بشكلها القبلي قد اندثرت تماما من بلاد الشام والعراق والجزيرة الفراتية ولم يعد لها وجود سوى على الصعيد الفردي، وكان أن من بقي في المسيحية اندمج مع سائر المسيحيين في البلاد. ومع أن البعض قال ببقاء قبائل عربية مسيحية ناحية الأردن وبادية الشام من سكان درعا وحوران والجولان، إلا أنه من الصعب تقديم الأدلة على ذلك.
لم تعمر المسيحية العربية سوى أربعة قرون بعد ظهور الإسلام، لكن زوالها لم يكن بحال من الأحوال علامة على ضعفها، إذ أن صمودها كل هذه السنين في ظل الإسلام يدل على عكس ذلك. وإن كان المسلمون قد حسموا الأمر عسكريا، إلا أنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في تحويل المسيحيين سكان البلاد الأصليين عن ديانتهم. وحق لنا الإشارة إلى دور الرهبان في صمود كنيسة المشرق أمام الأسلمة، الذين بفضل النعمة الإلهية الفائقة أظهروا أيماناً ثابتاً وإرادة صلبة في الحفاظ على مسيحيتهم وترسيخ أبناءها في الأيمان الأقدس.
أسباب وعوامل
إن الأسباب والعوامل التي عجّلت في امتداد الإسلام وانكماش المسيحية العربية وتلاشيها شيئا فشيئا من وسط العرب نشأت على الجانبين، الإسلامي والمسيحي على حد سواء. فمن الجانب الإسلامي عمل السيف والجزية والتهجير، وبطبيعة الحال، كانت الأسلمة غالبا تابعة لقتال عسكري وما يخلفه نصر الجيوش الإسلامية من تغيير في نمط الحياة والمسار
----------------------------
153 – سلوى بالحاج، ص 17
154 - المسيحية العربية، تاريخها وتراثها، الأب الدكتور ميشال نجم ص 127، يعتمد نجم على ذات المرجع الذي للدكتورة بالحاج (ص 174)، وهو كتاب "المصباح المرشد" لأبو نصر يحيى بن جرير التكريتي، الباب 54
155 - سلوى بالحاج، ص 217 ، وابن الكلبي، نسب معدو اليمن الكبير ج2 ص406، 407، أكد الحادثة أيضا السرياني ميخائيل الكبير في تاريخه.
السياسي. "والأسرى الذين يقعون في أيدي العرب بالفتوح من أهل البلاد المفتوحة... فهؤلاء إما أن يفتديهم أهلهم، أو يبيعهم المسلمون لبعض تجار الرقيق ... والباقون في الأسر إذا اعتنقوا الإسلام نجوا من الرق غالبا".[156]
وساهم نظام الجزية في إضعاف الوجود المسيحي العربي، إن لم نقل أنه المتسبب الأكبر في إعلان العديد عن إسلامهم هربا من الظلم الاقتصادي. ولم يكن لأحد من نصارى العرب أن ينجوا من القتل أو يستعفي من الجزية إلا بالهجرة عن بلاده، وهكذا أسلم من أسلم وهرب من هرب إلى بلاد الروم. أما الذين شملهم الخلفاء "بالرحمة الإسلامية" ولم يلزموا بالجزية، اشتُرط عليهم عدم تنصير أولادهم، كما حدث مع عرب تغلب وإياد والنمر.[157]
هؤلاء وغيرهم بعد مرور أربعة قرون في ظل الإسلام، زالت مسيحيتهم بشكل تلقائي، بسبب الموت الطبيعي للآباء والأسلمة التلقائية للأجيال اللاحقة. ولا يمكن لعاقل أن ينكر تأثير الضغط المعنوي الذي مارسه بعض الخلفاء والفقهاء على المسيحيين العرب بتهميشهم دينياً واجتماعيا حتى يضطروا إلى التخلّص من هذه الوضعية باعتناق الإسلام.
رغم ذلك لايجوز بنا تعليق الأسلمة على الإسلام وحده. فمن المراحل التاريخية التي مرت بها كنيسة المسيح، نستطيع أن نستشف حق جوهري ثابت، أن الاضطهاد على الكنيسة، مهما بلغ من قسوة، لا يمكنه أن يثني عزمها أويجعلها تتراجع أو يمنعها من تبليغ رسالة الإنجيل، بل أن نيران الإضطهاد كانت تلهب إيمانها وتزيدها نشاطاً وعزماً. وعليه لا بد من وجود عوامل أخرى تفسر لنا سرعة الأسلمة في البلدان التي دخلها الإسلام، منها:
أ - أن الجدل الفلسفي واللاهوتي حول طبيعة المسيح أحدث تصدعا وشروخا عميقة في المسيحية، وقاد بالتالي المسيحيين في الكنيسة الواحدة إلى تكفير بعضهم البعض. فنشأت نتيجة ذلك تحزبات وصراعات بلغت أحيانا حد الكراهية والبغض، حتى تمنى كل فريق زوال الفريق الآخر. ويسطر لنا التاريخ الكنسي حقبة مريرة عاشتها الكنيسة قبيل ظهور الإسلام، فبعد أن كان جل قصدها نشر نور الإنجيل، تفشت فيها روح المنافسة، وصار كل فريق يسعى إلى تعطيل الفريق الآخر ومسابقته إلى كسب المشايعين. وليس بالغريب أن تكون النتيجة الطبيعة لهذه الصرعات، أن يصطف حزب منهم إلى جانب العرب وينضم الحزب الآخر للروم.
ب - إن الأسلمة ارتبطت بلا شك بمدى عمق المسيحية وتأصل تعاليمها وقوة تنظيمها بين القبائل العربية، ولنا فيما تقدم من أحداث تاريخية أمثلة وبراهين على ذلك. لقد استسلمت المسيحية الغير منظمة بسرعة في شرق الجزيرة، بينما ثبتت مسيحية اليمن ولم تضعف أمام محاولات محمد لاستمالتها إلى الإسلام، ولم تخور أمام تهديد عمر بن الخطاب بإجلاء النجرانيين إلى بلاد الشام والعرق، فاختاروا الإجلاء والافتقار على الأسلمة.
إذاً، ضعف المسيحيين العرب وانعدام التنظيم الكنسي القوي جعلهم قبل كل شيء يتاثرون بالإسلام. وما يزيدنا يقينا بهذه الحقيقة، أن الأسلام فشل فشلا ذريعا في أسلمة سكان البلاد الأصليين، من آراميين، وأشوريين، وسريان، وأرمن، وقبط.
*****
خلاصة:
لقد لعب المسيحيون دورا هاما في انبثاق الدعوة المحمدية وأسدوا لها خدمة جليلة، بأن رفعوا قلوب العرب إلى الإله الأحد وبذلك هيئوا الطريق في قلوبهم لقبول الدعوة المحمدية؛ هم زرعوا والإسلام حصد.
-----------------------------
156 - التمدن الإسلامي، جرجي زيدان، ج 4 ص 58
157 - جرجي زيدان، السابق ج 4 ص 70
خلال فترة لا تتجاوز عمر الإنسان الواحد جاء المسلمون وأحدثوا انقلابا هائلا في أوطان المسيحيين وحياتهم، ومنذ ذلك الحين، والى أحقاب وآماد قد لا تنقضي إلا بانقضاء الزمان، ومصائر المسيحية مرتبطة بالدين الجديد.
إن القارئ لتاريخ المسيحية العربية يشعر أنه يسير في طريق آلام تاريخية طويلة. طريق بدأت بقبول بشارة الخلاص والبحث اللاهوتي وبناء الكنائس والأديرة، ثم ضاقت رويداً رويداً إلى أن تلاشت آثارها كلياً، ولكن لا يخفى على المسيحي أن لله سيد التاريخ في ذلك مقاصد، وطوبى لمن وجه قلبه وفكره ليفهم مقاصده.
- عدد الزيارات: 6574