Skip to main content

الفصل الرابع: أثر الإسلام على مسيحية الجزيرة العربية

تحول الخطاب المحمدي

إن التحولات الكبيرة التي طرأت على مسار محمد الفكري قد خلقتها الأوضاع السياسية الجديدة في شبه الجزيرة. فبعد أن تثبَّتت نبوته عند العديد من العرب وأصبح قائدا عسكريا متمكناً، تغير خطابه من الحوار والترغيب إلى التحذير والتهديد في ما يلخصه القرآن بالقول: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"، "وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم".[128]

انقلبت الموازين، وصار الإسلام النصراني، الذي جنح بداية إلى السلم وجاء برسالة الدعوة إلى الوفاق، دينا يبيح قتل اليهود والنصارى ويستبيح أموالهم وأعراضهم تحت مسميات عدة. مع هذا التحول في الخطاب المحمدي دخلت المسيحية حقبة جديدة من تاريخ الألم والمعاناة بعد سلام دام ما يقارب 300 سنة منذ مرسوم ميلانو.

يفسر فلنهاوزن تحول محمد من مبشرا ونذيرا إلى قائداً سياسياً بالقول: "إن المعارضة دائما تتغير عندما تصل إلى الرياسة، وأن السياسة عند تطبيقها تبعد كثيرا عن الفكرة التي عليها... وهذا هو الذي يفسر لنا أن النبي صار رئيسا سياسيا تغير عما كان عليه".[129]

قام محمد بحملات عسكرية عدة هدفت إلى إخضاع المنطقة تحت سلطة الإسلام، مما أدى إلى دخول قبائل مسيحية في الدين الجديد، متأثرة بعوامل عديدة:

1 - الخوف من السيف.

2 - التهرب من دفع الجزية.

3 - الطمع في الغزو مع المسلمين وكسب الغنائم.

4 - للحفاظ على المركز والسلطان.

5 - لستر الأعراض وتجنيب النساء والأطفال مساوئ الغزاة.

ولا يجوز إهمال ما كان لسبي النساء واسترقاق الأطفال من تأثير في الأسلمة، وإن سمينا الأشياء بأسمائها، قلنا "هتك الأعراض"، الذي جعلوا له فقه خاص سموه "جماع الأسيرات". أما المقدمة الضرورية للممارسات التي واكبت الغزوات فكانت التكفير. والكفار "أوجب تعالى القيام عليهم بمر الحق، وإن أدى إلى صلبهم وقتلهم، وقطع  أيديهم  وأرجلهم وأعضائهم ، وضربهم بالسياط،  وشدخهم  بالحجارة، وهتك  أستارهم،  وسبي  نسائهم وذراريهم".[130] أمام هذا التهديد

-------------------------------

128 - سورة التوبة 29  ، سورة الأحزاب 26 – 27

129 - تاريخ الدولة العربية، يوليوس فلنهاوزن، ص 6

130 - الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، مجلد 1، جزء 4 /فصل في إمكان النسخ

انهارت عزيمة الكثيرون، فاعتنقوا الإسلام.

إخضاع الجزيرة العربية

نجح محمدا في السيطرة سياسيّاً على المسيحيّين العرب في الجزيرة العربيّة ودخل بعضهم في الإسلام والأغلبيّة خضعت للجزية وأقرّت زعامته. الذين لم يذعنوا للدعوة المحمدية ورفضوا كذلك الجزية، وجدوا أنفسهم بين خيارين، السيف أو الهجرة. هذا الخط سلكه محمد وخلفائه من بعده حيثما ذهبوا، في عهد أبو بكر الصديق وعهد عمر بن الخطاب وعهد عثمان بن عفان ومن تبعهم.

قاد محمد بنفسه عدة غزوات في شمالي الحجاز، على تبوك، وأيلة، واذرح، والجرباء. ثم بعد فتح مكة أقام  اتصالات بمن يعيشون في البحرين من نصارى عبد القيس، فأسلم بعضهم، أما النصارى من غير العرب فبقوا على مسيحيتهم وخضعوا لقانون الجزية.

من الأمراء العرب المسيحيون، الذين  حكموا في أعالي الحجاز، يحنة بن رؤبة رئيس أيلة. هذا رفض الإسلام وصالح محمد على الجزية فحافظ على مركزه. دعاه المسعودي "أسقف أيلة"، وهو اللقب الذي ورد في محاضر بعض المجامع الكنيسة التي وقع عليها يحنة. [131]

تتحدث المصادر عن هوذة بن علي الحنفي، الذي كان ملكاً مسيحيا على اليمامة و شاعر قومه وخطيبهم. رفض  هوذة دعوة الرسول العربي إلى الإسلام بيد قيس بن عمرو الأنصاري، مفضلا البقاء على دين المسيح. فبقى ومات على نصرانيته.[132]

عرفت اليمامة العديد من سادة النصارى، منهم طلق بن علي بن طلق بن عمرو. ويروى عنه، أنه لمّا ذهب إلى المدينة وأسلم، قال له محمد ولمن معه: "إذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم وابنوها مسجداً"، فعملوا بقول محمد وكسروا بيعتهم وحولوها إلى  مسجداً، وكان يدير البيعة آنذاك راهب من قبيلة طيء.[133]

وأهل دومة الجندل وجماعة أكيدر كان لهم نصيب وافر من غزوات محمد وجيوشه. فبعد أن غزاها محمد أمر عبد الرحمن بن عوف أن يتزوج أبنة الملك الأصبغ الذي أجبره على الإسلام. وسار إليها أيضا خالد ابن الوليد "يساعده عياض من تغلب وقتل رؤساءهم، ودخل المدينة منتصراً، فغنم جيشه غنائم كثيرة وقُتِلَ من أهلها خلق كثير. وسبي ابنة الجوديّ. وكان الأكيدر في جملة القتلى".[134] كانت هذه الموقعة أول مواجهة طائفيّة بعد موت الرسول العربي بين العرب من مسلمين ومسيحيين.

يتبيّن من رسالة البطريرك النسطوري أيشوعاب الثالث، التي كتبت بين 50 و 52 هـ، أن مسيحيّي عمان اعتنقوا الإسلام ليحافظوا على ثروتهم الماديّة ومراكزهم. فيقول: "أين أبناؤك أيها الأب أين معابدك أيها القس ؟... إنّهم لم يجبروا لا بالسيف ولا بالنار ولا بالتعذيب والاضطهاد بل استولت عليهم الرغبة في الحفاظ على نصف ثروتهم"، وفي قوله إشارة إلى أنّ المسلمين طالبوا بنصف ثرواتهم مقابل بقائهم على دينهم.[135]

--------------------------------

131 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام – الدكتور جواد علي ، الفصل 79

132 - المرجع السابق، فصل 44

133 -  المرجع السابق، فصل  166

134 - المرجع السابق، فصل 44

135 - المسيحية العربية وتطوراتها، سلوى بالحاج، ص 148

رغم ذلك تشبث قسم كبير من العمانيين بمسيحيتهم، وفي مقدمتهم بني ناجية، ولمّا أرسل إليهم علي ابن أبي طالب رسولا يدعوهم إلى الإسلام أجابوه قائلين "نحن قوم نصارى، لم نر دينا أفضل من ديننا فثبتنا عليه".[136]

خصّ محمد أساقفة نجران في اليمن برسالة يدعوهم فيها إلى الإسلام أو دفع الجزية وإن أبوا هذا وذاك فالحرب. فجاء وفد منهم للحوار، من بينهم عبد المسيح والأيهم وحبرهم أبو حارثة بن علقمة. دارت مناقشة بين وفد نجران ومحمد انعكس مضمونها في سورة آل عمران. ولمّا لم يقتنعوا بدعوته، استجابوا لحكمه عليهم، المتمثل في فرض الجزية الجماعية، فأسلم منهم من لم يكن متأصلا في المسيحية من العامة أو من الرؤساء الذين فضلوا الحفاظ على سلطانهم.

لكن مما جاء في السيرة النبوية بعد ذلك يزيدنا علماً بتغير موقف محمد من النجرانيين، وأن الاحداث اللاحقة رسخت اليقين عند اليمنيين بانعدام مبدأ التحاور في الإسلام. يقول ابن اسحاق: "ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى، سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم. فخرج خالد حتى قدم عليهم فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام ويقولون أيها الناس أسلموا تسلموا. فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد  يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه".[137]

توفي محمد بن عبد الله في المدينة وبويع أبو بكر بالخلافة وحارب قبائل العرب المرتدة. ومع أن مسيحيو نجران جددوا البيعة لأبي بكر، أخل عمر بن الخطاب بعهد محمد معهم إخلالاً منكراً. فهم بطردهم من جزيرة العرب خوفا من تعاظمهم وغناهم، وكان له في ذلك قول محمد حجة، وهو أن "لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان". فأجلاهم وأسكنهم بلاد الشام والعراق.

------------------------------

136 - سلوى بالحاج، ص 80 و 132

137- السيرة النبوية لابن هشام، الجزء الثاني - إسلام بني الحارث بن كعب

  • عدد الزيارات: 4235