الباب الرابع: تفرُّد اللّه بالقدرة على الفداء الحقيقي
الباب الرابع
تفرُّد اللّه بالقدرة على الفداء الحقيقي
- 1 -
الشروط الواجب توافرها في الفادي، وإمكانية تحقيقها
عجز الأنبياء وهم صفوة الناس عن الاهتداء إلى الفدية التي تصلح للتكفير عنهم، على الرغم من أصوامهم وصلواتهم وصدقاتهم وذبائحهم المتعددة، لأنهم وجدوا وجوب اشتمال هذه الفدية على مميزات يتعذَّر تحقيقها في نظرهم. ولذلك سنبحث فيما يلي على قدر ما يتسع المجال أمام عقولنا، عن الشروط التي يجب توافرها في الفدية، أو بالحري في الفادي، ليكون قادراً على التكفير عن خطايانا تكفيراً حقيقياً، وعلى تحمُّل كل قصاصها، إيفاءً لمطالب قداسته التي لا نهاية لها، حتى يمكن الحصول على الغفران والتمتع بحضرة اللّه.
أولاً - الشروط الواجب توافرها في الفادي
1 - بما أن الفدية يجب أن تكون على الأقل مساوية في قيمتها للشيء المطلوب فداؤه. وبما أنه لا يساوي الإِنسان إلا إنسان مثله لأنه ليس له نظير بين الكائنات يعادله ويساويه. لذلك فالفدية أو بالحري الفادي الذي يصلح للتكفير عن نفوسنا، يجب أن لا يكون حيواناً بل أن يكون على الأقل إنساناً.
2 - وبما أن هذا الفادي سيكون فادياً ليس لإِنسان واحد بل لكل الناس، لتعذُّر وجود فادٍ لكل واحد من بلايين البشر الذين يعيشون في العالم، في كل العصور والبلاد، يجب أن تكون قيمته معادلة لكل هؤلاء الناس مجتمعين.
3 - وبما أنه لو كان الفادي من جنس يختلف عن جنسنا (على فرض وجود مثل هذا الجنس) ، لما استطاع أن يكون نائباً عنا، لأن النائب يجب أن يكون من جنس الذين ينوب عنهم، لذلك فإنه مع عظمته التي ذكرناها يجب أن يكون واحداً من جنسنا.
4 - وبما أنه لو كان الفادي خاطئاً مثلنا، لكان محروماً من اللّه وواقعاً تحت قضاء القصاص الأبدي نظيرنا، ولا يستطيع تبعاً لذلك أن ينقذ واحداً منا من هذا المصير المرعب، لأنه يكون هو نفسه محتاجاً إلى من ينقذه منه، لذلك فالفادي مع وجوب كونه واحداً من جنسنا، يجب أن يكون خالياً من الخطية خلواً تاماً.
5 - وبما أن خلوَّه من الخطية (وإن كان أمراً سامياً) لا يقوم دليلاً على كماله، وبالتالي على أهليته ليكون فادياً. فآدم مثلاً رغم أنه خُلق خالياً من الخطية غير أنه لم يكن معصوماً منها، لأنه عندما عاش على الأرض سقط فيها، لذلك لا يكفي أن يكون الفادي خالياً من الخطية، بل يجب أن يثبت بالدليل العملي أنه معصوم منها أيضاً.
6 - ولو كان هذا الفادي مخلوقاً، لكان بجملته ملكاً للّه. وشخص ليس ملكاً لنفسه بل ملكاً للّه، لا يحقّ له تقديم نفسه فدية للّه عن إنسان ما. إذاً فالفادي يجب أن يكون أيضاً غير مخلوق ليكون من حقه أن يقدم نفسه كفارة.
7 - بما أنه لا يمكن الحصول على الغفران والتمتع بالوجود في حضرة اللّه إلا إذا تمّ أولاً إيفاء مطالب عدالته وقداسته التي لا حدَّ لها، إذاً فالفادي يجب أن يكون أيضاً ذا مكانة لا حدَّ لسموها حتى يستطيع أن يوفي مطالب العدالة بتحمُّل كل قصاص الخطية عوضاً عنا، وأن يوفي مطالب القداسة بإمدادنا بحياة روحية ترقى بنا إلى درجة التوافق مع اللّه في صفاته الأخلاقية السامية.
فترى من يكون هذا الفادي العظيم القدر، الخالي من الخطية والمعصوم منها، غير المخلوق في ذاته، وغير المحدود في مكانته، حتى يستطيع متطوعاً أن يفي مطالب عدالة اللّه التي لا حدَّ لها عوضاً عنا، ويبعث فينا أيضاً حياة روحية ترقى بنا لدرجة التوافق مع اللّه في صفاته الأخلاقية السامية، وليس من يتصف بهذه الصفات أو يستطيع القيام بهذه الأعمال سوى اللّه؟ فهل هذا الفادي بجانب إنسانيته الممتازة يجب أن يكون هو اللّه؟!
حقاً إنه لسؤال خطير، لكن جوابه واضح كل الوضوح، ولا مفر منه على الإِطلاق.
ثانياً: إمكانية تحقيق الشروط السابقة
1 - يقدر الله أن يتَّخذ ناسوتاً من جنسنا ليكون فيه فادياً لنا. وباتّخاذه هذا الناسوت (أ) لا ينحصر في مكان ما، لأن اللاهوت لا يتحيز بحيز. ووجوده في مكان (حسب تقديراتنا البشرية) لا يمنع وجوده في مكان آخر في نفس الوقت. (ب) باتخاذه هذا الناسوت لا يفقد شيئاً من مجده الذاتي، لأن هذا المجد لا يتعرض للزيادة أو النقصان على الإطلاق. (ج) اتخاذه هذا الناسوت أمر تتطلبه رغبته في أن تكون لنا جميعاً علاقة حقيقية معه، إذ لا يمكن أن تتم هذه العلاقة إذا ظل بعيداً عن مداركنا، وظللنا نحن بعيدين عن التوالف معه.
والناسوت مصدر من الإنسان يُراد به الطبيعة البشرية بما تحويه من جسد ونفس وروح. أما كلمة اللاهوت فهي على وزن الناسوت والجبروت، يُراد بها جوهر اللّه، وجوهر اللّه هو عين ذاته، لأنه لا تركيب فيه على الإطلاق، أما الألوهية فهي مصدر منسوب إليه، مثل الفروسية المنسوبة إلى الفارس.
2 - والشرط الخاص بخلو هذا الناسوت من أي ميل للخطية يمكن تحقيقه، لأن اللّه عندما يتخذ لنفسه ناسوتاً لا يحتاج الأمر في تكونه إلى بذرة حياة من رجل ما، لأنه هو الحياة نفسها. وبما أن الطبيعة التي تميل إلى الخطية لا تنتقل إلى الإنسان إلا بواسطة التناسل الطبيعي، فمن البديهي أن يكون هذا الناسوت خالياً من الطبيعة المذكورة، ويكون أيضاً بسبب كماله الذاتي قادراً على أن يكون معصوماً من السقوط في الخطية.
3 - ويمكن تحقيق الشرط الخاص بوجوب مساواة نفسه لنفوسنا في القيمة، إذا عرفنا أن ناسوت اللّه فضلاً عن كونه مقترناً به كل الاقتران، الأمر الذي يجعل قيمته لا حد لها، فإن هذا الناسوت قدوس كل القداسة، والقدوس أعظم من كل الخطاة بما لا يقاس.
4 - والشرط الخاص بوجوب امتلاك الفادي لناسوته (أي بأنه غير مخلوق بواسطة كائن ما) من البديهي أن يتوافر فيه، لأن هذا الفادي هو اللّه، واللّه هو الخالق لكل الأشياء ومالكها.
5 - ومن البديهي أن يتوافر فيه الشرط الخاص بوجوب احتمال قصاص الخطية عوضاً عنا ليوفي مطالب العدالة الإِلهية التي لا حد لها، لأنه بوصفه هو اللّه، يحيط بمطالب هذه العدالة، ويقدر أيضاً أن يحققها في الناسوت الذي يتخذه.
6 - ومن البديهي أن يتوافر فيه الشرط الخاص بوجوب استطاعته أن يرقى بنا في حالة التوافق مع اللّه، لأنه في ذاته هو اللّه، واللّه هو الذي يستطيع القيام بهذه المهمة.
مما تقدم نرى أن الشروط الواجب توافرها في الفادي ليست معقولة فحسب، بل ويمكن تحقيقها بوسيلة معقولة أيضاً.
- 2 -
أدلة كتابية على تفرُّد اللّه بمهمة الفداء
أولاً - شهادة التوراة:
(1) قال موسى النبي للّه: ترشد برأفتك الشعب الذي فديته (خروج 15: 13) . ولم يكن المقصود بفداء اللّه لبعض البشر في العهد القديم، فداء أرواحهم، بقدر ما كان يُراد به فداء أجسادهم، أي إنقاذهم من الموت بوسيلة ما. أما فداء اللّه لنا، بمعنى احتماله في نفسه كل خطايانا لإِنقاذنا من القصاص الأبدي الذي نستحقه بسببها فلم يُعلن (كما سيتضح فيما يلي من هذا الباب) إلا في المسيحية.
ولما كان قصد اللّه منذ الأزل أن يقوم بهذه المهمة، ترد الأفعال الخاصة بها في التوراة فديتَه في الزمن الماضي، كما يتضح من خروج 15: 13 ومما سنقتبسه بعد ذلك. أما إذا وردت في صيغة المضارع، فيكون المُراد بها التحدث عن الفداء أو التكفير كحقيقة من الحقائق الإلهية الثابتة، لأن التعبير عن هذه الحقائق يُصاغ في الفعل المضارع. وقال موسى أيضاً للّه: اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب (تثنية 21: 8) وهذا يعني أنه لا غفران إلا بعد الفداء.
(2) وقال حزقيا الملك التقي الرب صالح يكفر عن كل من هيَّأ قلبه لطلب اللّه (2أيام 30: 18 و19) .
(3) وقال أيوب عن اللّه فدى نفسي من العبور إلى الحفرة، فترى حياتي النور (أيوب 33: 28) .
(4) وقال داود النبي الرب فادي نفوس عبيده (مزمور 34: 22) . وقال أيضاً إنما اللّه يفدي نفسي من يد الهاوية (مزمور 49: 15) . كما خاطب نفسه قائلاً عن اللّه: الذي يفدي من الحفرة حياتك، الذي يكللك بالرحمة والرأفة (مزمور 103: 4) ، لأنه إله خلاصي (مزمور 25: 5) . وقال للّه: معاصينا أنت تكفر عنها (مزمور 65: 3) والخلاص المقصود هنا هو الخلاص من الضيقات والآلام، كما يراد به الخلاص من الخطية ونتائجها.
(5) وقال إشعياء النبي فادينا رب الجنود اسمه (إشعياء 47: 4) . وقال أيضاً: الرب قد فدى يعقوب (إشعياء 44: 23) . وقال اللّه على لسانه إلهٌ بارّ ومُخلِّص، ليس سواي (إشعياء 45: 21) والبار هو العادل، والمخلِّص هو الرحيم، ولا سبيل إلى الجمع بينهما، إلا إذا قبل المخلّص تحمُّل نتائج خطايانا عوضاً عنا تحقيقاً للعدالة. وإلا كان الخلاص رحمة لا سند لها من العدالة، فلا تكون العدالة ثابتة ولا راسخة. كما قال للشعب الخاطئ إرجع إليّ لأني فديتك (إشعياء 44: 22) .
(6) وقال زكريا النبي عن اللّه ويخلّصهم. الرب إلههم (زكريا 9: 16) . ويُقصد بالرب الإله هنا المسيح من الناحية الجوهرية (كما سيتضح فيما يلي من هذا الفصل) وبذلك يكون المعنى أن اللّه يخلّص البشر بواسطة المسيح. وقال اللّه على لسانه أجمعهم لأني قد فديتهم (زكريا 10: 8) .
ثانياً - شهادة الإنجيل:
(1) قالت العذراء مريم عن اللّه اللّه مخلصي (لوقا 1: 47) . قاصدة بذلك أنه مخلِّصها من الخطية، لأنه لم تكن لديها وقتئذ مشكلة دنيوية ترجو الخلاص منها.
(2) وقال زكريا عندما ألهمه اللّه أن ابنه يوحنا سيُعدّ الطريق أمام المسيح مبارك الرب لأنه افتقد وصنع فداءً لشعبه (لوقا 1: 68) .
(3) وقال بولس الرسول عن اللّه إنه يفدينا من كل إثم (تيطس 2: 14) ، وإنه افتدانا من لعنة الناموس (غلاطية 3: 13) وإنه يكفّر الخطايا (عبرانيين 2: 17) وإنه خلّصنا (من خطايانا) ودعانا دعوة مقدسة (2تيموثاوس 1: 9) . وإنه بمقتضى رحمته خلّصنا من خطايانا (تيطس 3: 5) .
(4) وقال بطرس الرسول إن الذي مثاله يخلّصنا (1بطرس 3: 21) و أنكم افتُديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح معروفاً سابقاً قبل إنشاء العالم (1بطرس 1: 18-20) .
(5) وقال يوحنا الرسول عن اللّه إنه يطهرنا من كل إثم (1يوحنا 1: 9) . وهذا يتضمَّن الخلاص منه. وقال عن المسيح إنه كفارة ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً (1يوحنا 2: 2) .
(6) وقال يهوذا عن اللّه إنه الإِله الحكيم الوحيد مخلّصنا (آية 25) .
والفعل كفَر (بوجود فتحة على الفاء) معناه في اللغتين العبرية والعربية ستر . فنحن نقول: كفر الفلاح الحبوب، أي سترها بالتراب. والفعل كفَّر ، بوجود شدة على الفاء، يراد به المبالغة في الستر مثل الفعلين: فتح وقفل. أما إذا استعمل حرف الجر عن بعد كفّر فيكون المراد به تقديم التعويض اللازم عن الخطية أو عن إنسان مذنب. فنحن نقول: كفَّر فلان عن ذنوبه ، أي قدَّم التعويض اللازم عنها حتى تُرفع عنه عقوبتها. ونقول كفَّر فلان عن المذنبين أي قدّم التعويض اللازم عنهم حتى لا يلحقهم أذى من جراء ذنوبهم (لاويين 5: 5-19 و16: 30-34) .
والتكفير وإن لم يكن هو ذات الغفران، لكنه مقترن به، فلا غفران إلا ويسبقه تكفير (أياً كان نوع هذا التكفير) ، ولا تكفير إلا ويتبعه غفران. ولما كان الإنسان لا يستطيع التكفير عن خطاياه بالدرجة التي تفي مطالب عدالة اللّه التي لا حد لها، وكان اللّه وحده هو الذي يستطيع القيام بهذه المهمة، فإن تكفير اللّه بنفسه عن خطايانا بمعنى احتمال نتائجها في نفسه (على نحوٍ ما) عوضاً عنا قبل أن يغفرها لنا، أمر لا يجوز الاختلاف بشأنه. ولا غرابة في ذلك، فنحن نرى أنه إذا أساء عبد إلى سيده، فإن لسيده الحق أن يعاقبه، أو يعفو عنه. فإذا أبت نفسه أن تتحمل إِساءة العبد، عاقبه من أجلها. لكن إذا رضيت نفسه أن تتحمل هذه الإِساءة عطفاً وشفقة على العبد، فإنه يعفو عنه. وفي هذه الحالة يكون قد فداه أو كفَّر عن إساءته، لأنه تحمل الألم في نفسه عوضاً عن أن يصبّه على رأسه ناراً حامية. وكل ما في الأمر أن اللّه في عفوه عنا يتحمل إساءتنا في نفسه، ليس فقط بسبب العطف علينا، بل أيضاً لإِيفاء مطالب عدالته، لأن هذه ليست مجرد شريعة لديه كما هي الحال معنا، بل إنها صفة من الصفات التي تتميز بها ذاته، من الضروري إيفاء مطالبها بأي حال من الأحوال.
- 3 -
قانونية قيام اللّه بالفداء
تساور الشكوك بعض الناس في موضوع ظهور اللّه في ناسوت للقيام بالتكفير عن خطايانا ، وإن كان لا بد من التسليم به للأسباب التي ذكرناها في الباب السابق. فلنفحص فيما يلي اعتراضاتهم عليه.
1 - اللّه منزَّه في ذاته كل التنزيه، فلا يمكن أن يتَّخذ لنفسه ناسوتاً مثلنا، لأي غرض من الأغراض.
الرد: إذا وضعنا أمامنا أن اللّه يحبنا محبة شديدة، لأنه خلقنا على صورته كشبهه كما ذكرنا في الباب الأول، أدركنا أنه لا يمكن أن يكون متباعداً عنا، بل لا بد أن يكون حانياً علينا أكثر مما نفتكر أو نتصور. وهذا ما يدعوه إلى أن يشق لنفسه طريقاً من اللامحدودية إلى المحدودية مع بقائه غير محدود في ذاته، ومن جو القداسة المطلقة الذي يحيط به إلى عالم الخطية الذي نعيش فيه، مع بقائه قدوساً في ذاته. كما أن هذه المحبة تدعوه أن يعلن ذاته لنا بهيئة نستطيع إدراكه بها، هي الهيئة البشرية. إذ بدونها لا نستطيع أن ندرك أنه يحبنا، وبالتالي لا نستطيع أن نحب أو نثق أنه يمكننا الاقتراب منه والتوالف معه. وعندما يريد الله أن يعلن لنا محبته ويكفر بنفسه عن خطايانا، لا يكون هناك مانع لديه من الظهور في ناسوت خاص، طالما أن هذا الناسوت خال من الخطية ومعصوم منها. لأنه لو ظهر لنا في هيئة ملائكية مثلاً، لما استطعنا إدراكه حق الإدراك، إذ ليس هناك مجال للتوافق الحقيقي بيننا وبين الملائكة.
وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن التنزيه الذي يليق باللّه هو التنزيه عن الخطأ وعدم البر، وعن العجز والضعف، وليس التنزيه عن الاتصال بالناس الذين خلقهم على صورته، أو إظهار المحبة لهم والعطف عليهم بكل وسيلة من الوسائل.
2 - كيف يشق اللّه لنفسه طريقاً من اللامحدودية إلى المحدود مع بقائه غير محدود في ذاته، ومن جو القداسة المطلقة الذي يحيط به إلى عالم الخطية الذي نعيش فيه مع بقائه قدوساً في ذاته؟.
الرد: بما أن وجود اللّه مع جماعة من الناس في وقت ما، لا يمنعه من الوجود مع آلاف غيرها في جهات متباعدة في نفس الوقت، لذلك لا اعتراض على إمكانية ظهوره لنا في ناسوت مع بقائه غير محدود في ذاته. كما أن قداسة اللّه المطلقة لا تسمح لأي شرّ بالتسرب إليه مهما كان هذا الشر على مقربة منه، لأن القداسة المطلقة التي يتصف بها اللّه عازل يحول دون ذلك، فهو والحالة هذه يشبه (إن جاز التعبير) النور الذي يشق طريقه في وسط الظلمة، دون أن تختلط به أو يختلط هو بها.
3 - كيف يظهر اللّه الذي لا حدّ لعظمته، في ناسوت مثلنا؟.
الرد: لا تسمح محبة اللّه الشديدة لنا لأي عقبة أن تقف في سبيل تحقيق أغراضها، لا سيما وأن العظمة الحقيقية ليست في تشامخ العظيم بل في تواضعه، وليست في تعاليه بل في تنازله، كما أنها ليست في الأثَرة والأنانية بل في الإيثار والتضحية. فلا يمكن أن يستنكف اللّه من أن يظهر لنا في ناسوت خاص، طالما أن هذه هي الوسيلة الوحيدة لفدائنا، وفي الوقت نفسه هي الوسيلة الوحيدة التي بها نقدر أن ندرك محبته الفائقة لنا، ونقدر بها أن ندنو منه ونتوالف معه. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن اللّه كان يتراءى أحياناً لأصفيائه بهيئة مُدرَكة لديهم، اتضح لنا أن ظهوره في ناسوت ليعلن لنا جميعاً محبته الفادية، لا يتعارض مع طبيعته أو مقاصده من نحونا، لا سيما إذا كان هذا الناسوت قدوساً خالياً من الخطية ومعصوماً منها كما ذكرنا.
كان اللّه يظهر لليهود في صوت دون هيئة ما، لئلا يعملوا له تمثالاً يسجدون له. فقد قال موسى النبي لبني إسرائيل: فكلّمكم الرب من وسط النار، وأنتم سامعون صوت كلام. ولكن لم تروا صورة بل صوتاً (تثنية 4: 12) أما في حالة عدم احتمال عمل تمثال له بسبب الرسوخ في الإِيمان، فكان يظهر في هيئة ملاك أو إنسان، لأنها الهيئة التي يمكن للبشر التوالف بها معه، فظهر في الهيئة الأولى لهاجر. ولما أدركت أنه اللّه بعينه، قالت له: أنت إيل رُئي ، أي أنت إله حقيقي يمكن رؤيته (تكوين 16: 10-13) . وظهر في الهيئة الثانية لمنوح أبي شمشون. ولما سأله هذا عن اسمه قال له: لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب؟! وعندما تجلّت حقيقة هذا الإنسان عند صعوده إلى السماء، سقط منوح هو وزوجته على الأرض، قائلاً لها: نموت موتاً لأننا قد رأينا اللّه (قضاة 13: 18-22) .
4 - القول بظهور اللّه في ناسوت خال من الخطية ليعلن محبته الفادية لنا هو محاولة لإِخضاع اللّه لعقولنا، مع أن عقولنا هي التي يجب أن تخضع للّه في روحانيته المطلقة وتنزّهه عن كل عرض من الأعراض.
الرد: ليس هذا الموضوع محاولةً منا أن نُخضع اللّه لعقولنا، بل إنه من مستلزمات طبيعته وعلاقته بنا كما اتضح لنا مما سلف. فاللّه ليس ملكاً متكبراً لا عمل له إلا قبول الإكرام والاحترام من أتباعه، ومعاقبة الذين يسيئون إليه ومكافأة الذين يُخلِصون له منهم، وإظهار شيء من العطف في بعض الأحيان على من تنزل بهم الكوارث مثلاً، مع بقائه في برجه العاجي مترفّعاً عنهم أجمعين. لكنه الأب الطيب الذي لا يدع فاصلاً بينه وبين أولاده، بل وفي محبة شديدة يقترب إليهم ويقربهم إليه، كما ينزل إلى مستوى مداركهم ليعلن لهم ما خفي عنهم من جهة شخصه وأغراضه الصالحة من نحوهم. وإذا استلزم الأمر فإنه يضحي بكل ما لديه من أجلهم، ليرقى بهم إلى أسعد حالة ممكنة.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن اللّه لا يريد أن ندنو منه ونحن في حالة الرعب أو الذعر، لأن هذه الحالة لا تتوافق مع كماله، ولا تعود علينا بخير ما، بل أن ندنو منه ونحن في حالة المحبة له والشوق إليه. وأنه لا يمكن أن ندنو منه في الحالة الثانية إلا إذا أعلن لنا ذاته ومحبته بهيئة مُدرَكة لنا، اتضح لنا أن اتخاذ اللّه لنفسه ناسوتاً قدوساً ليعلن محبته لنا وليكفر عن خطايانا، أمر يتوافق مع ذاته ومع علاقته بنا.
5 - الفداء لا يكون إلا بين جماعة تربطها رابطة خاصة أو يجمعها جنس واحد، واللّه في ذاته لا تربطنا به هذه الرابطة، كما أنه ليس من جنسنا، فكيف يكون فادياً لنا؟.
الرد: خلقنا الله على صورته كشبهه، وأعطانا نسمة حياة خالدة من لدنه، كما جعلنا أعزّ الكائنات وأقربها إليه، وعرفنا بالكثير عن ذاته ومقاصده من نحونا بواسطة وحيه الذي كان يرسله إلينا من وقت إلى آخر، وقال لنا إنه ألصق نفسه بنا وألصقنا به (إرميا 13: 11) ، وليس هناك رابطة في الوجود مثل هذه الرابطة. أما من جهة وجوب أن يكون الفادي واحداً من جنسنا، فهذا يتحقق بالتمام باتخاذ اللّه لنفسه ناسوتاً مثلنا (إنما خالياً من الخطية خلواً تاماً كما ذكرنا) كما قال الإنجيل عن هذه الحقيقة: فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية (عبرانيين 2: 14 و15) .
6 - كيف نعلم أن اللّه يريد فداءنا، أو التكفير عنا بنفسه؟.
الرد: (أ) فضلاً عن الأدلة المتعددة الواردة في التوراة والإنجيل عن قيام اللّه بفدائنا أو التكفير عنا، كما ذكرنا فيما سلف، نقول: بما أن اللّه لم ينفذ حكم الموت في آدم بعد سقوطه في الخطية مباشرة، بل أبقاه حياً. وبما أنه ليس من المعقول إزاء كمال اللّه أن يكون قد أبقاه حياً ليلد ملايين البشر للشقاء الأبدي. إذاً فعدم قضاء اللّه على آدم بالموت بعد سقوطه في الخطية مباشرة، دليل على أنه لا يريد هلاك البشر بل خلاصهم. وبما أن خلاصهم لا يتحقق إلا بفدائه إياهم بنفسه، إذاً فمن المؤكد أنه أراد أن يقوم بهذه المهمة منذ القديم.
(ب) فإذا أدركنا أن الذبائح الحيوانية التي كانت تُقدّم بقصد التكفير عن الخطية، لم تكن صالحة لهذا الغرض كما مرّ بنا، وأنه على الرغم من عدم صلاحيتها كان اللّه يأمر الناس بوجوب المواظبة على تقديمها طوال العهد القديم، بل وجعل تقديمها وقتئذ الوسيلة الوحيدة لقبولهم أمامه، اتضح لنا أنه لا بد أنها كانت ذات معنى لديه، وهذا المعنى (كما يتضح من دراسة التوراة والإنجيل) ينحصر في أن الذبائح كانت رمزاً إلى فادٍ يقدر أن يكفّر عن الخطية تكفيراً حقيقياً إلى الأبد (1كورنثوس 5: 7 وعبرانيين 13: 11 و12) . وبما أن الذي يقوم بهذه المهمة هو اللّه دون سواه، إذاً لا بد أنه قصد أن يفتدينا بنفسه منذ القديم.
(ج) يقول الكتاب المقدس إن الإنسان عندما يطيع اللّه، تصبح الملائكة خداماً له، لأن الملائكة أرواح خادمة مُرسَلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص (عبرانيين 1: 14) ، الأمر الذي يدل على أن الإِنسان هو أعظم المخلوقات وأقربها إلى اللّه وأحبها إليه، وأن اللّه قصد منذ الأزل أن تكون له مع هذا الإِنسان علاقة وثيقة مستمرة. وبما أنه لا مجال لهذه العلاقة مع وجود الخطية، ولا مجال لمحو الخطية إلا بفداء اللّه للإِنسان (أو بالحري إلا بتكفيره عن خطاياه وإمداده بحياة روحية يستطيع بها التوافق معه) ، إذاً لا شك أن اللّه قصد منذ الأزل أن يفتدينا بنفسه.
7 - ألا توجد وسيلة للخلاص من خطايانا إلا بافتداء اللّه لنا بنفسه؟.
الرد: (أ) حقاً ما أصعب هذا السؤال أمام بعض الناس، وما أكثر الحيرة التي يسبِّبها لهم، فنحن لا نستطيع بعقولنا أن نعرف كل أفكار اللّه وتدبيراته، لأن إدراكنا محدود وهو فوق الحدود. فمن الشطط أن نتصوّر خطة خاصة يتحتم على الله أن يستخدمها في أمر خلاصنا من الخطية. لكن بحسب العقل الذي تفضّل وأعطاه لنا نقول: لو كان من الجائز أن تقل عدالة اللّه وقداسته عن رحمته ومحبته، لكان من الجائز أن ينقذ جميع البشر من خطاياهم ويقربهم إلى حضرته بكلمة واحدة، كما خلق العالم من قبل بمثل هذه الكلمة. لكن بما أن عدالته توازي رحمته، وقداسته توازي محبته بسبب كمال كل صفة من صفاته وتوافقها معاً توافقاً تاماً، إذاً فمع رحمته ومحبته اللتين لا حدَّ لهما، فإن من مستلزمات الكمال الذي يتصف به، ألا يتساهل في شيء من مطالب عدالته وقداسته. وبما أنه لا يستطيع سواه أن يوفي مطالب هذه وتلك، فلا سبيل للخلاص من الخطية ونتائجها إلا بقيامه بافتدائنا بنفسه.
(ب) أما لو صفح اللّه عنا وقرّبنا إليه دون أن يفتدينا بنفسه، لانخفض قدر عدالته وقداسته عن رحمته ومحبته، أو لكان قد انحاز إلى رحمته ومحبته دون عدالته وقداسته. وبما أنه لكماله المطلق لا يمكن أن تقل عدالته عن رحمته أو قداسته عن محبته، ولا يمكن أيضاً أن ينحاز إلى صفة فيه دون أخرى، إذاً فمن المؤكد أنه يقبل القيام بافتدائنا بنفسه، لأن هذا يكون أكثر موافقةً لكماله من الصفح عنا وتقريبنا إليه بوسيلة لا تتفق مع عدالته وقداسته. وبالإِضافة إلى كل ما تقدم، فإنه أيسر لنا أن نؤمن بإِله يحب خليقته ويبذل كل ما لديه في سبيل إسعادها، من أن نؤمن بإِله غير كامل الصفات أو ينحاز إلى صفة دون الأخرى.
8 - أعلن الوحي أن الله بطيء الغضب وكثير الإحسان (خروج 34: 6) ، فيمكنه أن يصفح عن الخطاة من مجرد رحمته، لا سيما وأن هذا التصرف يكون أحسن لدى اللّه من الفداء الذي يكلفه كثيراً.
الرد: (أ) إذا كان اللّه يصفح عن الخطاة دون مراعاة لعدالته ويقرّبهم إليه دون مراعاة لقداسته، تكون عدالته قد قلت في قيمتها عن رحمته، وتكون قداسته قد قلت في قيمتها عن محبته، وهذا ما لا يمكن حدوثه بسبب كماله المطلق وتوافق صفاته معاً كما ذكرنا. كما أنه إذا كان اللّه يترك الأشرار يطغون ويعبثون، وفي نهاية الأمر يأتي بهم إلى سمائه لينعموا معه فيها (إذا كانوا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً) ، لا يكون رحيماً أو رؤوفاً بل متساهلاً مع الشر. ولكن بتكفيره عن البشر بنفسه وبتحمُّله نتائج خطاياهم عوضاً عنهم، وإمداده إياهم بحياة روحية يمكنهم بها التوافق معه في صفاته السامية، يُظهر منتهى العدالة ومنتهى الرحمة، كما يظهر منتهى القداسة ومنتهى المحبة. كما أنه يُذيب قلوب المخْلِصين منهم، فيُقبِلون إليه بكل حب وإخلاص، وهم على استعداد تام لخدمته وإكرامه مهما كلفهم الأمر من جهد.
ولا مجال للاعتراض على وضعنا لعدالة اللّه وقداسته نصب أعيننا دائماً عند البحث في مسألة الغفران والقبول لديه، لأن العدالة والقداسة لديه ليستا مبدأين أخلاقيَّين منفصلين عن ذاته، يراعيهما عند القيام بأعماله كما هي الحال عند المخلصين من الحكام والقضاة، بل أنهما (مع المبادئ الأخلاقية الأخرى) صفتان كائنتان في ذاته. فلا يمكن أن يتخلى عنهما أو يتصرف بالرحمة والمحبة. دون إيفاء مطالب كل منهما أولاً.
(ب) أخيراً نقول: إن الأحسن لدى اللّه ليس هو الأسهل في نظرنا، لأن اللّه لا ينظر إلى أمر من الأمور التي يعملها من جهة كونه سهلاً أو صعباً، فكل الأمور سهلة لديه. لكنه ينظر إلى كل أمر من جهة كونه متوافقاً مع كماله أو غير متوافق معه. ولما كان فداء اللّه لنا بنفسه يتوافق مع كماله كل التوافق، لأنه يتمشى مع عدالته وقداسته التي يجب إيفاء مطالبهما، لذلك فهو الشيء الأحسن لديه. إن كان هناك مجال لوجود شيء حسن وآخر أحسن في الأعمال التي يقوم بها.
9 - إذا كان ولا بد من الفداء، فهل يعجز اللّه عن خلق شخص يقوم به نيابة عنه؟.
الرد: بما أنه لا يستطيع القيام بالفداء إلا اللّه كما مرَّ بنا، وبما أنه ليس من المعقول أن يخلق اللّه شخصاً نظيره، لأن المخلوق يكون مُحدِثاً، والمحدِث لا يكون مثل القديم الأزلي في شيء من خصائصه. إذاً ليس هناك كائن غير اللّه يستطيع أن يفدينا ويكفر عنا سيئاتنا.
ولو أن اللّه خلق شخصاً نظيره للقيام بهذه المهمة، لكان قد ظلم هذا الشخص وعاقبه بأشنع عقوبة دون ذنب جناه. أما إذا كان هو يقوم بافتدائنا بنفسه، فلا يكون قد ظلم أحداً أو قسا عليه، بل يكون قد أظهر منتهى المحبة والرحمة لنا، الأمر الذي هو خليق به. كما أنه لو قام شخص غير اللّه بفدائنا، لأصبح هذا الشخص مصدر حياتنا وولي نعمتنا، لأنه يكون بالنسبة لنا المنقذ من العذاب الأبدي والواهب الحياة الأبدية لنا، ولصرنا كلنا تبعاً لذلك عبيداً له من دون اللّه. كما يكون اللّه قد تنازل لهذا الشخص عن مجده الذاتي كالسيد الرب الوحيد الذي له وحده الإكرام والعبادة. ولا يمكن أن يتنازل الله عن مجده هذا لكائن ما (إشعياء 42: 8) ، لأنه فضلاً عن أنه لا إله إلا هو، لا يجوز أن يكون هناك إله معه على الإطلاق (وإلا لكان محدوداً في قدرته، وهذا محال) . فمن البديهي أن يقوم اللّه نفسه بافتدائنا كما ذكرنا.
10 - مهما بلغت شدَّة محبة اللّه للبشر، فهي لا يمكن أن تصل إلى الدرجة التي يقوم معها بفدائهم بنفسه، لما يتطلبه الفداء من تضحية لا نقدر أن نتصورها.
الرد: إذا كان الأب البار بأبنائه، مع ما فيه من نقائص، يحبهم محبة شديدة ويحتمل بنفسه نتائج أخطائهم عوضاً عنهم، لذلك لا غرابة إذا كان اللّه الكامل كل الكمال يرضى، في محبته التي تفوق محبة الآباء بدرجة لا حدَّ لها، أن يتحمل عنا نتائج خطايانا، بل يعوّض لنا أيضاً ما نكون قد فقدناه من امتيازات بسبب جهلنا وانحرافنا عنه. والكتاب المقدس مليء بالآيات التي تدل على أن اللّه يُسرّ بنا ويحبنا محبة لا حد لها، الأمر الذي يدل على أن فداءه لنا أمر يتوافق ليس فقط مع ذاته وما بها من كمال مطلق، بل ويتوافق أيضاً مع علاقته بنا كما ذكرنا.
ففي التوراة، أعلن الوحي أن لذّات اللّه هي مع بني آدم (أمثال 8: 31) ، وأنه أحب المؤمنين محبة أبدية، ولذلك أدام لهم الرحمة (أرميا 31: 3) . وأنهم أعزاء ومكرَّمون في عينيه (إشعياء 43: 4) ، وبمثابة حدقة العين لديه (تثنية 32: 10) وأنه بمحبته ورأفته يفكهم من ضيقاتهم (إشعياء 63: 9) ، وأنه يجذبهم بربط المحبة إذا ضلوا عنه (هوشع 11: 4) ، وأنه أحبهم ليس لصلاح فيهم بل أحبهم فضلاً (هوشع 14: 4) ، أو بالحري دون أن يكون هناك شيء فيهم يدعوه إلى إظهار المحبة لهم.
وفي الإنجيل، أعلن الوحي أن مسرة اللّه هي في الناس (لوقا 2: 14) ، وأنه أحب العالم بأسره (يوحنا 3: 16) ، وأنه أحب المؤمنين به إلى المنتهى (يوحنا 13: 1) وأنهم لذلك يدعون أحباء اللّه (رومية 1: 7) وأولاده (1يوحنا 3: 1) .
وأعلن الوحي أن المحبة ليست مجرد صفة من صفات اللّه بل أنها ذات طبيعته، فقد قال اللّه محبة (1يوحنا 4: 8) ، أي أنه بكلياته وجزئياته (إن جاز التعبير) محبة. ولذلك فإنه لا يقف عند حد الاهتمام بالناس أو الإحسان إليهم، بل إنه أيضاً يتوق إليهم ويريد الاتصال بهم إتصالاً وثيقاً. وعندما نقول إن الله يحب البشر، نعني أنه يضحي بكل شيء لديه في سبيل خيرهم وإسعادهم.
والمسيحية وحدها هي التي تعلن أن اللّه يحب جميع الناس، وليس الصالحين منهم فحسب كما تقول غيرها من الأديان. ومحبة اللّه لنا ليست هي الرحمة والشفقة فحسب (كما يظن البعض) ، بل هي (إن جاز التعبير) التعلُّق بنا تعلقاً يجعله يجد كل سروره فينا، كما يجعله يضحي بكل عزيز وغالٍ لديه في سبيل إسعادنا. ولإِيضاح الفرق بين المحبة والرحمة بمثل مادي نقول: قد تأخذنا الشفقة أحياناً على مجرم أثيم وصل إلى أحط درجات البؤس والشقاء، فنمدّه بما يحتاج إليه من غذاء أو كساء، ولكننا لا نستطيع أن نأتي به إلى منزلنا ليعيش بين أفراد عائلتنا ويأكل ويشرب ويتسامر معنا، وذلك بسبب اختلاف أخلاقه عن أخلاقنا. فنحن بتصرفنا هذا، نكون قد أشفقنا عليه، لكن لا نكون قد أحببناه. والرحمة الخالية من المحبة قاسية كل القسوة، ولا تقبلها إلا النفوس الدنيئة الحقيرة، كما أنها لن تكون عاملاً في تهذيب هذه النفوس أو إصلاحها. أما اللّه جل شأنه فلا يشفق على الخطاة فقط بل ويحبهم أيضاً، ويتحمَّل في نفسه خطاياهم، ويعمل على تأهيلهم للتوافق الروحي معه، الأمر الذي يملأ المخلصين منهم بالمحبة الخالصة له، ويجعلهم يحفظون وصاياه ويتفانون في خدمته وإكرامه دون النظر إلى جزاء أو ثواب.
11 - مَن هو الإنسان بالنسبة إلى الكون المترامي الأطراف، حتى يحبه اللّه بهذا القدر؟
الرد: ليست العظمة في الضخامة بل في الفهم والإدراك، وإلا لكان الفيل أعظم قدراً من الإِنسان لأنه أكبر حجماً منه. صحيحٌ أن الإِنسان مخلوق ضعيف، تقدر أصغر الميكروبات أن تفتك به. لكن اللّه في نعمته الغنية ميّز الإِنسان عن كل المخلوقات بمميزات سامية، فقد خلقه على صورته كشبهه، وجعله المتسلّط على الأرض والممثّل له عليها (تكوين 1: 28) . وتدل آثار الإِنسان في العالم على أنه أسمى المخلوقات وأعظمها إدراكاً وذكاءً، فقد أخضع قوى الطبيعة لسلطانه، واستأنس الحيوانات واستخدمها لقضاء حاجاته، وزرع النباتات وألف منها أنواعاً جديدة، وكشف عن مصادر الثروة في البر والبحر معاً. كما عرف الكهرباء والطاقة الذرية واستخدمهما في قضاء مآربه، وانطلق إلى الفضاء وهبط على القمر ووصل إلى غيره من الكواكب. وصَدَق شكسuير في قوله إن الإنسان أعظم من كل ما في الكون من كائنات ، فليس في العالم كائن يشبه الإِنسان في الفهم والإدراك والطموح إلى العلاء، فلا عجب إذا كان اللّه يحب الإنسان محبة لا حد لها، ويُقبل على افتدائه بنفسه طالما أنه ليس هناك من يفتديه سواه.
12 - صحيحٌ أن اللّه لا يعسر عليه أمر، لكن تحمُّله نتائج خطايانا في نفسه عوضاً عنا، أمر لا يتفق مع العقل.
الرد: (أ) ليس اللّه فقط حاكماً يعامل شعبه بالحق والعدل، بل هو أب يبذل النفس والنفيس من أجل إسعاد أبنائه. وهناك فرق كبير بين الأمور التي لا تتفق مع العقل وبين تلك التي تفوق إدراكه. فالثانية هي ما تتفق مع العقل في ذاتها، لكن لعظمتها تسمو فوق إدراكه في كيفية تنفيذها، فلا يمكنه الإحاطة بها. أما الأولى فلا تتفق مع العقل إطلاقاً، لا في ذاتها ولا في كيفية تنفيذها، فإذا قيل (مثلاً) إن اللّه لا يعبأ بالإِنسان (كما ينادي بعض الفلاسفة) ، فإن هذا القول لا يتفق مع العقل، لأنه من المفروض أن يهتم اللّه بالإِنسان الذي خلقه على صورته كشبهه. أما إذا قيل إنه أحب الإِنسان وفداه بنفسه، فإن هذا القول لا يكون ضد العقل بل أسمى منه، لأنه من المفروض أن يحب اللّه الإِنسان كما ذكرنا، ومن المفروض أيضاً أن تكون محبته له متناسبة مع ذاته. وبما أن ذاته لا حد لها، تكون محبته للإِنسان لا حد لها أيضاً. وبما أن المحبة التي لا حد لها تظهر في القيام بخدمات وتضحيات لا حد لها في قدرها ونوعها قام اللّه بأعظم تضحية في سبيل إنقاذنا من قصاص خطايانا ومنحنا طبيعة روحية نتوافق بها معه في صفاته السامية. وليس هذا أمراً ضد العقل، بل أسمى من العقل، وفي الوقت نفسه يتفق مع العقل كل الاتفاق. وهذا ما يدعونا إلى تصديقه وقبوله بكل شكر وحمد.
(ب) إذا كانت الحكومات تكرّم من يضحّون بعضو من أجسامهم في سبيل غيرهم، وإذا كنا نكرّم الفدائيين ونجلهم ونشيد بعظمتهم، مع أنهم في سبيل إنقاذ بلادهم من أيدي الأعداء المغتصبين، يقتلون أشخاصاً قد يكونون أبرياء. فلا شك أن فداء اللّه لنا الذي يترتب عليه أن يتحمل نتائج خطايانا عوضاً عنا، دون أن يسبب ضرراً أو أذى لواحد منا، أمر عظيم كل العظمة وسامٍ كل السمو، وجدير أيضاً بكل إكرام وتقدير.
13 - افتداء اللّه لنا بنفسه يفرض عليه التأثُّر، والتأثر يدل على التغيُّر، واللّه لا يتغير.
الرد: إذا نظرنا إلى اللّه كمجرد فكرة أو قوة، أو كإله جامد، أو كمقيم في عزلة عن خليقته (كما ينظر إليه بعض الفلاسفة) فلا يمكن طبعاً إسناد التأثر إليه بحال. لكن إذا نظرنا إليه كما هو، ذات يتصف بكل صفات الكمال ويتصل بنا اتصالاً وثيقاً لمحبته التي لا حد لها لنا، ووضعنا أمامنا أن كل علاقة بين طرفين تقتضي حدوث تأثير في كل منهما، اتضح لنا أنه يتأثر على نحو يتفق مع روحانيته المطلقة، بسبب علاقته بنا كما ذكرنا في الباب الأول. غير أن تأثر اللّه هذا لا يؤدي إلى حدوث تغير في ذاته، لأنه كان يعرف كل شيء عنا منذ الأزل، فقصد من الأزل أن يفتدينا بنفسه، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لخلاصنا. وعندما أخطأنا في الزمان وتطلَّب الأمر أن يعلن فداءه لنا، لا يكون قد طرأ عليه أمر جديد يستدعي حدوث تغير في ذاته، إذ يكون فقط قد أعلن لنا ما قصد أن يعمله أزلاً، كما خلق العالم في الزمان دون أن يطرأ عليه تغير ما، بسبب علمه بهذا العالم منذ الأزل.
14 - ما الذي يُلزِم اللّه بافتدائنا، وما الذي يهدف إليه بهذا الافتداء؟
الرد: (أ) ليس هناك شيء في الوجود يستطيع أن يفرض على اللّه القيام بعمل ما، فهو يقوم بكل أعماله بمحض إرادته، لأنه ليس هناك من له أدنى سلطة أو تأثير عليه. فمن البديهي أن يكون الباعث الوحيد على افتدائه لنا، هو كماله المطلق ومشيئته الصالحة من نحونا. فقد قال الوحي عنه: يعمل كل شيء حسب قصده وحسب مسرة مشيئته ، وحسب مسرته التي قصدها في نفسه (أفسس 1: 5-11) .
كما أن اللّه لا يهدف بهذا الفداء إلى الحصول على خير منا، فهو ليس في حاجة إلى خير من أي كائن من الكائنات، لأنه كامل في ذاته كل الكمال ومستغنٍ عن كل شيء من الأشياء، فإن التضحية التي تعمل للحصول على خير تفقد قيمتها وتصبح عملاً تجارياً لا يليق بكائن عظيم مثل اللّه. فهو لا يقصد بالفداء إلا خير البشر وإسعادهم، وفي خيرهم وإسعادهم تتحقق أغراضه السامية من نحوهم.
(ب) إذا كان الأمناء من البشر يتصرفون في الأعمال المسندة إليهم بكل نزاهة وإخلاص. وإن استلزم الأمر، فإنهم يضحون عن طيب خاطر بصحتهم ومالهم للقيام بهذه الأعمال على الوجه الأكمل، ليس خوفاً من رؤساء أو طمعاً في جزاء بل مراعاة لضمائرهم ومبادئهم، فليس من المعقول أن يترك اللّه، وهو الكامل في كل صفاته، طريق الفداء الذي يتفق مع عدالته وقداسته، ويلجأ إلى طريق التساهل معهما أو عدم المبالاة بهما، بطريق الغفران بدون فداء.
والقضاة أمثلة للأمناء من البشر، فقد عُرضت عليهم قضايا ضد أشخاص يمتُّون إليهم بصلة القرابة. ولما درسوها وجدوا أن القانون يقضي على هؤلاء الأشخاص بغرامات مالية يعجزون عن دفعها، فأبت نزاهتهم أن يستغلوا مراكزهم لتبرئة أقربائهم أو تخفيض الغرامات الواجب تحصيلها منهم، فأصدروا الأحكام عليهم بالغرامات القانونية، ودفعوا من جيوبهم هذه الغرامات عوضاً عنهم. وبهذا حفظوا للقانون كرامته، ولنفوسهم نزاهتها وعفتها، كما رفعوا رؤوس أقربائهم وصانوهم من نقد المنتقدين وتهكم المتهكمين. فإذا كان بعض البشر يتصرفون هذا التصرف النبيل، فلا شك أن اللّه الذي هو أسمى منهم بدرجة لا حد لها، لا يمكن أن يهمل مطالب عدالته وقداسته بسبب عطفه على الناس ومحبته لهم.
(ج) أما الاعتراض بأن القضاة المذكورين ربما دفعوا الغرامات خوفاً من المؤاخذة وبالأخص من رؤسائهم، لكن اللّه ليس عليه رقيب يحاسبه، ولذلك لا حرج عليه إذا كان يعفو عن الخطاة دون تضحية من جانبه.. فنقول: إن اللّه وإن لم يكن عليه رقيب يناقشه الحساب، لكن له كماله الذاتي الذي ينزهه عن أي تصرف لا يتفق مع القداسة والعدالة، كما ذكرنا في الباب الثالث.
15 - التضحية بالمال والصحة والوقت أمر جائز، لكن تحمُّل الآلام نيابة عن المذنبين أمر لا يتفق مع العدالة، لأن هذه تقتضي بأن المذنب هو نفسه الذي يجب أن يُسجَن أو يجلد أو يقتل.
الرد: لو كان المذنبون السابق ذكرهم محكوماً عليهم بالسجن أو الجلد أو القتل، لما كان من الجائز للقضاة مهما كانت درجة القرابة التي تربطهم بهم، أن يتحملوا عنهم هذه العقوبات. لكن لا يمكن أن يكون هذا هو الحال من جهة موقف اللّه إزاء الخطاة، لأنه هو وحده الذي وضع القانون الخاص بمعاقبتهم، وهو وحده الذي ينفذ هذا القانون، بالطريقة التي تتفق ليس مع عدالته فحسب بل ومع رحمته أيضاً، لأن رحمته وعدالته متَّحدتان كل الاتحاد في ذاته. وإذا كان الأمر كذلك، فإن عقولنا لا تستبعد مطلقاً أن يقوم اللّه بالتكفير بنفسه عنا، لأنه بهذه الوسيلة يفي مطالب عدالته التي لا حد لها، وفي الوقت نفسه يظهر لنا رحمته التي لا حد لها أيضاً. ولو لم يقم بهذا العمل من تلقاء ذاته، لكان حرج موقف الأتقياء الذين يحبونه والبؤس الذي يهددهم في الحاضر والمستقبل معاً مثل غيرهم من الناس، يطالبانه باسم رحمته ومحبته اللتين لا حد لهما، أن يقوم به على حساب نفسه، لأنه خالقهم ولا ملجأ لهم إلا شخصه ولا رجاء لهم إلا عنده. ولا ريب أنه كان يستجيب لهم مهما تطلب الأمر من تضحية، وهذا ما حدث فعلاً كما سنرى في الباب التالي.
16 - العدالة، كما أعلن الوحي، هي أن لا يحمل الابن إثم أبيه، أو الأب إثم ابنه (تثنية 24: 16 وحزقيال 18: 20) ، بل أن النفس التي تخطئ هي تموت. فكيف يحمل اللّه إثمنا ويتألم بسببه عوضاً عنا؟!.
الرد: (أ) خلق الله الأب البشري وولده، وكلٌّ منهما مسئول شخصياً أمامه عن الآثام التي يقترفها وحده، ولذلك لا يحمل أحدهما من إثم الآخر. ولكن اللّه وإن كان غير مسئول أمام كائن ما، غير أنه مسئول (إن جاز التعبير) أمام ذاته. وذاته لا تتصف فقط بالعدالة التي لا حد لها، بل وأيضاً بالرحمة التي لا نهاية لها، لأن هذه وتلك متحدتان في ذاته دائماً أبداً، وذلك لكماله المطلق في كل صفة من صفاته. وموقف اللّه إزاءنا لا يكون موقف العدالة المجردة، بل موقف العدالة المتحدة بالرحمة، أو بالحري موقف التضحية. وهذا ما يدعوه إلى تحمل نتائج خطايانا إيفاء لمطالب عدالته، وتحملها نيابة عنا إيفاء لمطالب رحمته.
فناموس التضحية وإن كان يختلف عن ناموس العدالة، لكنه لا ينقض أحكامه بل يثبتها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن اللّه في قيامه بالتضحية لا يكون مرغماً أو مجبراً، بل متطوعاً للقيام بها بمحض اختياره ومشيئته لأجل الخير العام، لا يبقى هناك مجال للاعتراض.
(ب) حقاً ما أخطر النتيجة التي وصلنا إليها، لكنها على أي حال ليست مؤسسة على ظنون أو أوهام بل على حقائق معقولة، ولذلك فإن سموها عن إدراكنا لا يقلل مطلقاً من قانونيتها ولزومها وصحّتها. وإننا إذ نقرر ذلك، لا نكون قد سلكنا مسلكاً شاذاً بل مسلكاً طبيعياً مألوفاً، فنحن جميعاً نؤمن بوجود الروح البشرية وتكوين الأفكار المعنوية في المخ المادي، ليس لأننا أدركنا ماهية الأولى أو كيفية حدوث الثانية، بل لمجرد ظهور أدلة معقولة تثبت حدوث هذه ووجود تلك، فلا يجوز رفض حقيقة افتداء اللّه لنا، طالما قد توافرت الأدلة على صدقها.
أما تهكم بعض الناس على الاعتقاد بتكفير اللّه بنفسه عن خطايانا، فلا يؤثر على هذا الاعتقاد في قليل أو كثير، لأنهم إذا كانوا على شيء من الإخلاص، فلينبئونا كيف يمكن أن يغفر اللّه لنا خطايانا وهو عادل بقدر ما هو رحيم، وكيف يمكننا أن ندنو منه وهو قدوس بقدر ما هو رؤوف؟! وإن عجزوا عن الإجابة، ولا نخالهم إلا عاجزين، فإنهم كما قال الوحي يعترضون باب الخلاص، فهم لا يدخلون، ولا يدعون الراغبين في الدخول أن يدخلوا (متى 23: 13) !
- 4 -
ظهور اللّه في ناسوت للقيام بالفداء
يتوق كل مؤمن لمعرفة الشخص (أو بالحري الناسوت) الذي ظهر اللّه فيه للقيام بالفداء. فمن هو هذا الشخص يا ترى؟
الجواب: إذا تصفَّحنا حياة الأشخاص الذين ظهروا في العالم نرى أن هذا الشخص هو المسيح، لأنه هو الذي توافرت فيه جميع الشروط التي ذكرناها في الفصل الأول، كما يتضح فيما يلي:
1 - لم يرث المسيح الخطية في طبيعته الإنسانية، لأنه وُلد بدون الأب المورّث لها، إذ كانت ولادته من العذراء بقوة الروح القدس (لوقا 1: 35) .
2 - وعاش المسيح بقوته الذاتية دون خطية، مع أنه كانت له كل الإحساسات الطبيعية مثل الشعور بالجوع والعطش والألم والحاجة إلى النوم (متى 4: 2 ويوحنا 4: 7 و18: 23 ولوقا 8: 23) ، وغير ذلك من الإحساسات التي كانت كافية (لولا كماله الذاتي) بأن تميل به إلى الانحراف عن حق اللّه. ولكنه لم ينحرف عنه على الإطلاق. ولذلك كان أسمى من آدم بما لا يقاس. فقد خُلق آدم خالياً من الخطية، غير أنه مال إليها وسقط فيها، على النقيض من المسيح تماماً.
3 - تساوي نفس المسيح نفوس البشر جميعاً، بل وتفضل عنها قيمة وقدراً. لأنه هو الكامل، أما هم فبسبب خطاياهم ناقصون. وإن اجتمع بعضهم إلى البعض الآخر، فإن هذا لا يقلل من نقصهم، بل يزيده نقصاً.
4 - المسيح (من الناحية الناسوتية) إنسان حقيقي من جنسنا، فجسده (وإن كان خالياً من الخطية) كان جسداً مادياً مثل أجسادنا. فقد قال الوحي: فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو (أي المسيح) أيضاً كذلك فيهما (عبرانيين 2: 14) . ولما ظن تلاميذه بعد قيامته من بين الأموات أنه روح، قال لهم: انظروا يديّ ورجليّ، إني أنا هو. جسُّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي (لوقا 24: 36-39) .
5 - ورغم أنه كان إنساناً حقيقياً، كانت نفسه ملكاً له، فقد قال عنها: ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها (أي أسلِّمها) أنا من ذاتي. لي سلطانٌ أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها (أي أستردّها) أيضاً (يوحنا 10: 18) .
وقد برهن عملياً على صدق شهادته هذه، إذ أنه بعدما قدم نفسه كفارة عن البشر وأسلم روحه من أجلهم، استردَّها ثانية وقام من بين الأموات.
6 - وكان في إمكانه أن يبعث حياة روحية في البشر، ترقى بهم فوق قصورهم الذاتي وتجعلهم أهلاً للتوافق مع اللّه في صفاته الأخلاقية السامية إلى الأبد. فقد قال عن رعيته: وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد (يوحنا 10: 28) .
وقد اختبر المؤمنون به هذه الحياة عملياً، كما قال أحدهم: ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت (رومية 8: 2) .
7 - كان المسيح من الناحية الباطنية (كما يتضح مما يلي) هو ذات اللّه، فاستطاع أن يكفّر عن البشر جميعاً تكفيراً يفي مطالب عدالته التي لا حدّ لها، كما يتضح من الباب التالي.
إذا كان الأمر كذلك، فالمسيح هو أيضاً الشفيع أو المحامي الذي أشرنا إليه في آخر الباب الثاني، قال عنه الرسول يوحنا للمؤمنين الحقيقيين: أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا (لأنه أعطاكم بالمسيح حياة روحية تستطيعون بها التسامي فوق الخطية) . وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب، يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً (1يوحنا 2: 1) .
- 5 -
شخصية المسيح
قبل التحدُّث عن شخصية المسيح، نوجه أذهان القراء إلى أننا نحن المسيحيين نؤمن أنه لا إله إلا الله، وأنه لا تركيب فيه على الإطلاق. فقد قال على لسان إشعياء النبي: أنا الأول وأنا الآخِر ولا إله غيري (44: 6) . وقال الوحي عنه إنه روح (يوحنا 4: 24) والروح لا تركيب فيه بحال. كما نؤمن أنه ذات أي ليس مجرد عقيدة في الذهن، أو قوة تحرك الكون. وذاته وإن كان لا يحدها زمان أو مكان، تتصف بالصفات اللائقة بكماله، مثل السمع والبصر والكلام والعلم والإرادة والقدوة والعدالة والقداسة والمحبة والرحمة، دون أن تكون له أعضاء ما. أما ما نختلف فيه عن غيرنا من المؤمنين بالله، فهو نوع الوحدانية الخاصة به ودرجة علاقته بنا، ولذلك نحصر الحديث عنهما فيما يلي:
أولاً - نوع الوحدانية اللائقة بالله
1 - عدم توافق الوحدانية المطلقة مع الله:
الله ذات يتصف بصفات خاصة، وبما أن هذه الصفات لو كانت عاطلة أزلاً ثم صارت عاملة عندما خلق الكائنات، لكان (أ) قد تعرض للتغيُّر، إذ تكون صفاته قد صارت عاملة بعد أن كانت عاطلة، ويكون قد دخل في علاقات بعد أن كان بلا علاقة أصلاً، (ب) ولكان أيضاً قيامه بالخلق ضرورة لجأ إليها ليُظهر ذاته ويمارس صفاته كما يقول بعض الفلاسفة ورجال الدين، الأمر الذي يتنزه عنه لتعارضه مع كماله الذاتي. لذلك لا بد أن صفاته وعلاقاته كانت بالفعل أزلاً قبل وجود أي كائن من الكائنات سواه.
2 - توافق الوحدانية الجامعة أو الشاملة مع ذات الله الواحدة:
تساءل البعض كيف يكون الله واحداً لا تركيب فيه، وفي الوقت نفسه تكون وحدانيته وحدانية جامعة؟ .
وللرد على ذلك نقول: بما أن الله جوهر، لأنه قائم بذاته وكل قائم بذاته، جوهر (المدخل في الفلسفة ص 177) وفي الوقت نفسه له تعيُّن خاص يدل عليه (لأنه ليس بلا تعيُّن إلا غير الموجود) لذلك إذا قلنا إن الله جامع أو شامل من جهة، وواحد من جهة أخرى، لا يكون هناك تناقض ما، لأن التناقض لا يكون إلا إذا كان الاختلاف في أمر واحد من جهة واحدة، كما لو قلنا عن شخص ما إنه ضعيف البنية وقوي البنية في الوقت نفسه. فمن أي جهة يكون الله واحداً، ومن أي جهة يكون جامعاً أو شاملاً؟ طبعاً يكون واحداً من جهة الجوهر لأنه لا تركيب فيه، ويكون جامعاً أو شاملاً من جهة التعيُّن، لأن وجود صفاته وعلاقاته بالفعل أزلاً، يدل على أنه جامع من هذه الجهة.
وعندما نقول إن الله جوهر ذو تعيُّن، لا نفرق بين جوهر الله وتعينه، بل نقصد فقط أنه ليس جوهراً مبهماً أو غامضاً بل جوهراً له وجود حقيقي يتميَّز به عن غيره. فجوهر الله ما هو إلا اللاهوت، وهذا الجوهر نفسه بالنظر الى تعيُّنه ما هو إلا الله. والله ليس شيئاً غير اللاهوت بل هو اللاهوت مُعيّناً. واللاهوت ليس شيئاً غير الله بل هو الله جوهراً. ولذلك كثيراً ما تستعمل كلمة اللاهوت بدلاً من كلمة الله، وكلمة الله بدلا من كلمة اللاهوت.
3 - الجمع أو الشمول في ذات الله:
يقول معظم الفلاسفة وعلماء الدين الذين يعتقدون معنا أن وحدانية الله هي وحدانية جامعة أو شاملة إن هذه الوحدانية الجامعة هي ذات الله وصفاته. لكن لو سلمنا باعتقادهم هذا، ووضعنا أمامنا أن صفات الله وعلاقاته كانت بالفعل أزلاً كما اتضح لنا مما سلف، لانتهى بنا الأمر الى أن الله كان في الأزل يكلم صفاته ويسمعها ويبصرها ويريدها.. أو أن صفاته كانت تكلمه وتبصره وتريده.. أو أنها كان يكلم بعضها بعضاً ويسمع بعضها بعضاً ويبصر بعضها بعضاً ويريد بعضها بعضاً.. وكل ذلك باطل، لأن الله لا يتعامل مع الصفات، ولا الصفات تتعامل مع الله، أو مع بعضها البعض. فالتعامل لا يكون إلا بعد التعينات العاقلة، والصفات معان وليست تعينات، فلا يمكن أن يكون المراد بالجمع أو الشمول لدى الله، هو ذاته وصفاته، بل هو ذاته وحدها. فالله مع وحدانية جوهره وعدم وجود تركيب فيه، هو نفسه جامع أو شامل، أو بتعبير آخر إنه قائم ليس بتعيُّن واحد بل بتعينات.
وبما أن ذات الله تعينات، إذاً فكل تعين من تعيناته لا يكون جزءاً من ذاته، بل يكون ذاته بعينها (لأنه غير مركب من عناصر أو أجزاء) وأن يكون أيضاً ذاته بكل خواصها وصفاتها (لأن تعينات الله هم عين جوهره) ولذلك يكون كل تعين لله، هو الله الأزلي الأبدي السميع الكليم البصير المريد.. لأنه على هذا الأساس يكون الله ممارِساً لكل صفاته وعلاقاته بينه وبين ذاته منذ الأزل، إلى درجة الكمال، دون أن يكون هناك تركيب في ذاته أو شريك معه.
4 - عدد التعيُّنات وأسماؤهم:
لا نقدر أن نتكهَّن بعدد التعيُّنات ولا باسمائهم، لأن المرجع الوحيد بشأنه هو الوحي الإلهي. وبالرجوع إليه يتضح أن العدد المذكور هو 3 لا أكثر ولا أقل. وقد اصطلح المسيحيون منذ القديم على تسمية هؤلاء التعينات بالأقانيم (والمفرد أقنوم) . فالأقانيم إذاً ليسوا كائنات في الله أو مع الله، بل هم ذات الله الواحد الأحد، لأنهم تعينات اللاهوت أو اللاهوت معيَّنا. وقد أطلق الوحي على تعينات الله اسماً واحداً، وليس أسماء كثيرة فقال باسم وليس بأسماء الآب والابن (أو الكلمة) والروح القدس (متى 28: 19) ، وفيما يلي معنى كل أقنوم من هؤلاء الأقانيم.
ثانياً - معاني الأقانيم
1 - الابن أو الكلمة :
لا يراد بهذا الأقنوم أنه ابن بالمعنى الحرفي لأن الله ما وُلد ولا يلد، بل يراد به ابن بالمعنى الروحي. وهذا المعنى كما يتضح من الكتاب المقدس هو المعلِن . كما دُعي الكلمة (يوحنا 1: 1 و2) بهذا المعنى، لأن الكلمة هي التي تعلن صاحبها. ولم يُدعَ المسيح كلمة الله لأنه خُلق بكلمة الله، إذ أن هناك فرقاً بين الكلمة وأثر الكلمة . فالمخلوقات ليست كلمة الله بل هي أثر كلمة الله لأنها مخلوقة بواسطته. ولذلك قال الوحي الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر (يوحنا 1: 18) . ولا يُراد بالحضن هنا المعنى الحرفي بل الروحي، لأن الآب ليس له حضن مادي. والمعنى الروحي للحضن هو الحب العميق والوحدة الروحية الكاملة. ولا مجال للاعتراض على ذلك، لأن الأقانيم ليسوا هم الآب والأم والروح القدس، بل هم الآب والابن والروح القدس .
وبما أنه لا يعلن الله إلا الله، لأنه لا نظير له على الإطلاق، لذلك فالمعلِن لله (أو بالحري ابن الله أو كلمته) هو نفسه الله مُعلَناً. ولا غرابة في ذلك فالاصطلاح ابن الشيء كثيراً ما يرد في اللغة العبرية بمعنى ذات الشيء . فمثلاً قول الله بنت شعبي أو ابنة شعبي (إرميا 8: 11) لا يراد به إلا ذات شعبه. كما أن الاصطلاح بنات الفكر في اللغة العربية، لا يراد به إلا ذات الفكر واضحاً ومعلناً .
2 - الآب :
هذا الأقنوم لا يُسمى الوالد بل الآب . وهناك فرق عظيم بين الاثنين. فقد يكون هناك والد مجرد من كل صفات الأبوة، وقد يكون هناك شخص تتجمع فيه هذه الصفات، دون أن يكون متزوجاً أو له أولاد. فلا يراد بهذا الأقنوم المعنى الحرفي بل الروحي. والمعنى الروحي للآب كما يتضح من الكتاب المقدس، هو القائم بالمحبة الباطنية. وهذا المعنى معروف لدينا جميعاً.
وقد أعلن أقنوم الابن عندما كان في الجسد على الأرض عن محبة الآب الأزلية له، فقال له: لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم (يوحنا 17: 24) وبذلك كشف المسيح لنا عن سر من الأسرار التي كانت في اللاهوت، بين أقانيم اللاهوت، قبل خلق أي شيء في الوجود. ففي الأزلية السحيقة المجهولة لديهم، أعلن لنا الابن أن المحبة كانت متبادلة بين الآب وبينه بكل سموها وكمالها.
والوحي لا يسند المحبة إلى أقنوم أو أقنومين بل إلى الأقانيم جميعاً، أو بالحري إلى اللاهوت الذي هو جوهر كل أقنوم وجوهر الأقانيم معاً، فقد قال الله محبة (1يوحنا 4: 8) . فإن الآب يحب الابن كما ذكرنا. والابن يحب الآب (يوحنا 14: 31) والروح القدس هو روح المحبة (2تيموثاوس 1: 7) . وتبادل المحبة بين الأقانيم، هو النتيجة الحتمية لوحدة جوهرهم، والدليل على وحدتهم التامة في كل أعمال اللاهوت وتصرفاته.
وقولنا إن الآب كائن منذ الأزل، دليل واضح على أن الابن هو الابن منذ الأزل أيضاً، لأنه ليس هناك أبوة إلا ومعها بنوّة، كما أنه ليست هناك بنوّة إلا ومعها أبوة. وإذا كان الأمر كذلك، لا يبقى لدينا أي شك في أن الابن ليس مخلوقاً بواسطة الآب أو مولوداً منه، بل إنه واحد معه في الأزلية. لأنه ليس من المعقول أن الله كان غير مُعلَن أولاً، ثم صار مُعلَناً في دور من الأدوار.
3 - الروح القدس :
هذا الأقنوم لا يدعى بهذا الاسم لأنه يتميز دون الأقنومين الآخرين بروحانية الجوهر. كلا، لأن جوهر الأقانيم واحد، فقد قال الوحي بعبارة صريحة إن الله (من جهة أقانيمه الثلاثة) هو روح (يوحنا 4: 24) . إنما دُعي الروح القدس بهذا الاسم لأنه يقوم (كما يتضح من اسمه) بأعمال اللاهوت بطريقة روحية. بينما يقوم الابن بها بطريقة علنية أو ظاهرية.
كما أن هذا الأقنوم لا يوصف بالقدوس لأنه يتميز بالقداسة دون الأقنومين الآخرين. كلا. لأن الأقانيم الثلاثة يتصفون معاً بهذه الصفة وبكل صفات الكمال الأخرى بدرجة واحدة، ولكن يوصف بالقدوس لأنه هو الذي يعلن بحالة روحية قداسة الله في كل تصرفاته، ولأنه أيضاً هو الذي يقدس نفوسنا حتى تتوافق مع الله في قداسته.
مما تقدم يتضح لنا ما يأتي:
1 - سُمّي كل أقنوم باسم خاص، ليس لأن أحدهم أقدم من الآخر زماناً، أو أفضل منه مقاماً، أو لأنه يختلف عنه جوهراً، بل لأن كلاً منهم يقوم بعمل يتناسب مع أقنوميته، ولأن بين أحدهم والآخر علاقات روحية خاصة، بها للاهوت أو لله علاقات متكاملة بينه وبين ذاته منذ الأزل الذي لا بدء له إلى الأبد الذي لا نهاية له، بغض النظر عن وجود أي كائن من الكائنات سواه. فالوحي يسمي أحد الأقانيم الآب لأنه يبطن كل معاني المحبة في اللاهوت، ويسمي أقنوماً آخر الابن لأنه يعلن كل معاني المحبة في اللاهوت، ويسمي أقنوماً غيره الروح القدس لأنه يقوم بأعمال اللاهوت بطريقة روحية.
2 - بسبب تبادل المحبة بين أقانيم الله إلى درجة الكمال، يكون مستغنياً بذاته عن كل شيء في الوجود منذ الأزل الذي لا بدء له إلى الأبد الذي لا نهاية له، لأن حياة المحبة هي في الواقع أسمى نوع من أنواع الحياة، ومن يحياها لا يشعر أنه في حاجة إلى شيء على الإطلاق. فلا يكون الخلق ضرورة لجأ الله إليها ليُظهر ذاته ويمارس صفاته كما يقول بعض الفلاسفة وعلماء الدين، بل يكون نتيجة طبيعية للمحبة العاملة في ذاته، لأن من شأن المحبة أن تعمل عملاً نافعاً.
يتفق قيام الله بثلاثة أقانيم مع ذاته وما هو لازم لكمالها واستغنائها عن كل شيء في الوجود، غير أنه يسمو فوق العقل كثيراً. ولا غرابة في ذلك، فهو وصف لذات الله، والبحث في ذات الله لا تصل إليه المدارك على الإطلاق. وهذا ما تجنَّبه علماء الدين جميعاً، فقالوا: من خاض في الذات بفكره، فهو عاصٍ لله ورسوله . كما قالوا إن الحق تعالى لا يُدرَك بالنظر الفكري أبداً، وليس عندنا أكبر من ذنب الخائضين في ذات الله بفكرهم (كتاب الفتوحات ص 65) . ونحن نتفق مع هؤلاء العلماء على تعذر البحث في ذات الله، بل وأيضاً على عدم جواز البحث فيها. ولولا أن الكتاب المقدس أعلن لنا أن الله هو الآب والابن (أو الكلمة) والروح القدس ، وأن الأدلة العقلية والنقلية، أثبتت لنا صدق هذا الإعلان، لما خطر ببالنا مطلقاً أن يكون هذا هو كنه الله. وأقصى ما كان يخطر ببالنا عنه، أنه جامع في ذاته ومستغن بها كل الاستغناء، كما يعتقد كل الفلاسفة ورجال الدين الذين يتأملون كثيراً في ذاته.
ثالثاً - ظهور أقنوم الابن في المسيح
بما أن أقنوم الابن هو الذي يعلن الله أو اللاهوت بطريقة منظورة كما ذكرنا، كان أمراً بديهياً أنه إذا أراد الله أن يُظهر ذاته لنا (وعملٌ مثل هذا يتوافق مع كماله كل التوافق، لأن من دواعي هذا الكمال أن لا يكون في عزلة عنا، بل أنه يُظهر ذاته لنا لندركه ونتوالف معه) ، أن يتم هذا الظهور بواسطة أقنوم الابن. فالله الذي لا يمكن رؤيته أو إدراكه في ذاته، يصبح من الميسور لنا أن نراه وندركه في أقنوم الإبن. وهذا ما حدث فعلاً، فقد اتحد الأقنوم المذكور بالمسيح اتحاداً تاماً، فاستطعنا به أن ندرك قداسة الله وقدرته ومحبته ومعرفته التي لا حد لها.
أما قبل ظهوره في المسيح، فكان تارة يظهر في هيئة ملاك وتارة أخرى في هيئة إنسان، ولكن تدل كل القرائن على أنه لم يكن في ذاته هذا أو ذاك، بل كان هو الرب نفسه الذي يستحق كل إكرام وسجود (تكوين 21: 17-20 وقضاة 6: 11-24) . وفيما يلي بعض الأدلة التي تثبت هذه الحقيقة:
(1) الأدلة الكتابية على شخصية المسيح
1 - شهادته عن ربوبيته وبنوته لله ووحدته الجوهرية مع الآب وإعلانه له:
قال المسيح إنه الرب (متى 21: 3) وإنه رب داود (متى 22: 42-45) ، ورب الرسل (متى 24: 42) ، كما قال إنه ابن الله (يوحنا 9: 35-38 و10: 36) ، وإن الله أبوه بمعنى أنه معادل له، أو بالحري واحد معه (يوحنا 5: 18) وإنه والآب واحد (يوحنا 10: 30 و17: 22) ، وإنه في الآب والآب فيه. وإن كل من رآه فقد رأى الآب (يوحنا 14: 9 و10) وإنه يجب على جميع الناس أن يكرموه كما يكرمون الآب (يوحنا 5: 23) .
2 - شهادته عن أزليته وأبديته:
قال المسيح إن له مجداً خاصاً قبل إنشاء العالم (يوحنا 17: 5) وإنه قبلما وُلد إبراهيم على الأرض، هو كائن أو بالحري كائن بذاته (يوحنا 8: 58) ، وإنه الألف والياء. البداية والنهاية. والأول والآخِر (رؤيا 1: 8 و17) .
3 - شهادته عن عدم تحيّزه بزمان أو مكان:
أعلن المسيح ْأثناء وجوده على الأرض أنه وقتئذ في السماء أيضاً (يوحنا 3: 13) وأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه على الأرض، يكون في وسطهم (متى 18: 20) وأنه يظل مع تلاميذه، والمؤمنين الحقيقيين به، إلى انقضاء الدهر (متى 28: 20) .
4 - شهادته عن أنه الحياة والمحيي:
شهد المسيح أنه الحياة (يوحنا 11: 25) وأنه يحيي من يشاء (يوحنا 5: 21) وأنه أتى لتكون لنا حياة وحياة أفضل (يوحنا 10: 10) وأن من يؤمن به إيماناً حقيقياً تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16) .
5 - شهادته عن سلطانه في غفران الخطايا وإدخال التائبين الى الفردوس:
قال المسيح للمفلوج: مغفورة لك خطاياك (لوقا 5: 20) . وقال عن المرأة الخاطئة قد غُفرت خطاياها الكثيرة (لوقا 7: 47) وقال للص الذي التجأ إليه نادماً عما فعله من شر اليوم تكون معي في الفردوس (لوقا 23: 43) .
6 - شهادته عن سلطانه في قبول السجود:
سجد المجوس للمسيح وهو بعد طفل صغير (متى 2: 1-11) وسجد له الأبرص (متى 8: 2) والأعمى (يوحنا 9: 38) ، ورئيس المجمع (مرقس 5: 22) والكنعانية (متى 15: 25) وبطرس الرسول (لوقا 5: 8) وكل الذين كانوا في السفينة (متى 14: 33) وسجد له الرسل جميعاً (متى 28: 17) ، وقَبِل المسيح سجود هؤلاء جميعاً له.
7 - شهادته عن محاسبته للناس وقضائه على الشيطان:
قال المسيح إنه متى جاء في مجده يجتمع أمامه جميع الشعوب فيميز بعضهم عن البعض الآخر، ويقيم الأبرار عن يمينه والأشرار عن يساره، ويقول للفريق الأول تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم . ويقول للفريق الثاني اذهبوا عني يا ملاعين الى النار الأبدية (متى 25: 31-46) كما أعلن أن الشيطان سقط أمامه كما يسقط البرق من السماء (لوقا 10: 18) .
(ب) الأدلة العقلانية على شخصية المسيح
1 - شهادة المسيح عن نفسه:
لو كان المسيح يسعى وراء العظمة الدنيوية، أو لو كان ذا بطش وقوة، أو لو كانت شهادته قد وجدت قبولاً لدى الكثيرين من الناس لكان هناك مجال للطعن في شهادته السابق ذكرها، بدعوى أنه كان متكبراً، أو أن الناس هم الذين شجعوه على الادعاء بالألوهية. لكن المسيح (على النقيض من كل ذلك) كان وديعاً كل الوداعة وحكيماً كل الحكمة وصادقاً كل الصدق (متى 11: 29) . وكان معاصروه يقاومونه بسبب شهادته المذكورة (يوحنا 10: 32 و33) . فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان يصر على الشهادة عن نفسه أنه ابن الله على الرغم من إهانة الناس له (يوحنا 5: 17-23 و10: 30-38) وأنه لو كان قد تنحى عن هذه الشهادة لما أصابوه بسوء ما، اتضح لنا أنه لا بد أنه ابن الله كما قال.
2 - رفض المسيح للمُلك الأرضي:
التفَّ اليهود حول المسيح في أول الأمر ليجعلوه ملكاً عليهم لأنهم وجدوا فيه المسيا الذي كانوا يحلمون به (يوحنا 6: 15) . ولو أراد المسيح أن يؤلّه نفسه لكان قد أجابهم إلى رغبتهم، لأن الملوك كانوا وقتئذ يُعامَلون معاملة الآلهة (أعمال 12: 22) . لكن المسيح رفض رغبتهم هذه، وفي الوقت نفسه ظل يشهد أنه ابن الله وهو في حالة الوداعة والفقر التي اختارها لنفسه، الأمر الذي يدل على أنه لم يكن مدَّعياً بل صادقاً كل الصدق في شهادته عن نفسه.
3 - لم يفرض المسيح على الناس الاعتقاد بأنه ابن الله:
لم يفرض المسيح الاعتقاد أنه ابن الله على أحد، حتى كان يجوز الشك في صدق شهادته عن نفسه، بل تركهم يستنتجون هذه الحقيقة من تلقاء أنفسهم (يوحنا 6: 66-71 ومتى 16: 13-18) . ولم يطلب منهم أن يؤمنوا بشهادته المذكورة إيماناً أعمى، بل كان يثبت لهم بالدليل العملي صدقها. فمثلاً عندما أعلن لهم أن له سلطاناً على غفران الخطايا، الذي يتفرَّد به الله، أظهر أحقيته في ممارسة هذا السلطان إذ شفى بكلمة واحدة مفلوجاً لم يكن يستطيع حراكاً على الإطلاق. وكان يقول للناس: الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي (يوحنا 10: 25) وصدقوني أني في الآب والآب فيّ. وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها (يوحنا 14: 11) ، والذي يضع حياته وأعماله تحت الاختبار ليفحصها الناس بأنفسهم ويحكموا بواسطتها على حقيقة أمره، هو شخص صادق كل الصدق في شهادته لنفسه.
4 -ولادته من عذراء:
وهي دليل على أن له وجوداً ذاتياً قبل ولادته منها، ودليل على أن له حياة ذاتية تجعله في غنى عن بذرة حياة من رجل ما. والذي له وجود ذاتي وله حياة ذاتية، هو الله، أو أقنوم من أقانيمه.
أما القول إن الله خلق آدم دون أب أو أم، وأخذ حواء من أب دون أم، وليبين قدرته سمح بأن يولد المسيح من أم دون أب، فلا يكون المسيح إلا واحداً من البشر، فلا يجوز الأخذ به، لأن الله خلق آدم دون أب أو أم، لأنه لم يكن قبله رجل وامرأة يولد منهما. وأخذ حواء من آدم فقط ليكونا واحداً لا ينفصل أحدهما عن الآخر (متى 19: 5) ، وفي الوقت نفسه لأنه لم يكن قبل حواء امرأة لتولد منها. لكن بعد وجود الذكور والإناث على الأرض لم يبق هناك داع لأن يأتي إنسان من أم دون أب، أو من أب دون أم، أو من دونهما معاً. لأن الله أوجد الجنسين في بدء الخليقة ليتناسل منهما البشر جميعاً. ولو كان المسيح مجرد إنسان، لما وُلد إلا من أب وأم مثل باقي الناس. حقاً إن الله أظهر قدرته في ولادة المسيح من عذراء، ولكن يجب أن لا يفوتنا إن إظهار قدرته في ولادة المسيح من عذراء، دليل على أنه ليس له مثيل أو نظير بين البشر على الإطلاق.
5 - عصمته:
مع أن المسيح عاش في جسد من لحم ودم، وسكن في ذات العالم الذي نعيش فيه، وكانت كل مغريات هذا العالم تحيط به مثلنا سواء بسواء، لكنه لم يتجه إلى واحدة منها (على النقيض من كل الرسل والأنبياء، فقد عثروا جميعاً وتلوثت حياتهم بخطايا متنوعة) . ولما اجتمع اليهود حول المسيح محاولين اختلاق التهم التي تبرر في نظرهم القبض عليه، وقف بينهم عالي الرأس وقال لهم: من منكم يبكتني على خطية؟ فلم يقدر أحد أن يذكر له خطية واحدة في أي دور من أدوار حياته. أما عن شهادة الأصدقاء عنه فكثيرة. ولذلك نكتفي بالقول: إن بولس الرسول الذي كان ألد أعداء المسيح قال عنه عندما عرفه، إنه قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات في الطهر والقداسة (عبرانيين 7: 26) .
6 - عمل المعجزات بسلطانه الذاتي:
كان أنبياء الله يعملون المعجزات ليس بناءً على إرادتهم الشخصية بل بناءً على إرادة الله، أما المسيح فكان يعملها بإرادته الذاتية، ولذلك كانت بالنسبة له أمراً عادياً. فكان يقول للأبرص أريد فاطهر فيطهر في الحال (متى 8: 3) . ويقول للمفلوج قم واحمل سريرك وامش ، فتزول علته كما تدب فيه العافية ويحمل سريره ويمشي (مرقس 2: 9) . ويقول للميت قم ، فيقوم على الفور وليس به عرض من أعراض الموت أو الضعف (لوقا 7: 14) . وكان يمشي على الماء لينقذ أشخاصاً مشرفين على الغرق، ويدخل البيوت والأبواب مغلّقة ليهدّئ روع أشخاص تملكهم الخوف والفزع (متى 14: 25 ويوحنا 20: 26) ، وكان ينتهر العواصف فتهدأ في الحال ويعود السلام إلى قلوب الذين فيها (مرقس 4: 39) . ومنح تلاميذه سلطاناً على عمل المعجزات، فكانوا يعملونها باسمه (متى 10: 1) الأمر الذي لم يفعل مثله نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل.
7 - علمه بالغيب:
كان يعرف أسماء الناس دون أن يكون قد التقى بهم من قبل، كما كان يعرف الأعمال التي كانوا يقومون بها في الخفاء (يوحنا 1: 42-47) والخواطر التي كانت تجول في عقولهم (يوحنا 6: 6) . والأسرار الكامنة في أعماق نفوسهم (يوحنا 4: 18) وكان يعرف ما جاء في الكتب دون أن يدرسها (يوحنا 7: 15) ، وما يحدث في الأماكن التي تبعد عنه كثيراً (مرقس 14: 13) ، وما يوجد في أعماق البحار وما ابتلعه السمك من أشياء (متى 17: 27) ، كما كان يعرف ما يخبئه المستقبل من مختلف الأحداث، فعرف أن أورشليم سيحل بها الخراب والدمار (لوقا 21: 6) ، وأن لعازر سيموت وأنه سيقيمه من بين الأموات (يوحنا 11: 11 و14) ، وأن يهوذا سيسلمه لليهود (متى 26: 23) وأن بطرس سينكره ثلاث مرات (متى 26: 34) ، وأنه هو نفسه (أي المسيح) سيُصلب ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث (متى 16: 21) . ولم يكن علمه بهذه الأمور مرتبطاً بزمان ما، بل كان لديه أزلاً (يوحنا 6: 64) ، الأمر الذي ينفرد به الله دون سواه.
8 - قيامته من بين الأموات:
كل الذين قاموا من بين الأموات بقوة معجزية، عادوا فماتوا بعد ما عاشوا على الأرض مدة من الزمن . أما المسيح ففضلاً عن أنه لم يمت بعد قيامته، بل بعد ما عاش على الأرض مدة من الزمن يثبت فيها إيمان تلاميذه، ارتفع الى السماء (لوقا 24) ، فإنه له المجد قام من بين الأموات بقوته الذاتية وبإرادته الشخصية. فقد قال لليهود قبل صلبه عن جسده: انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه (يوحنا 2: 19) وقال لهم أيضا عن نفسه: أنا هو القيامة والحياة (يوحنا 11: 25) ، وشخص تكون نفسه ملكاً له، يسلِّمها إذا أراد ويستردها إذا أراد، ويكون أيضاً هو القيامة والحياة لا يكون مخلوقاً. وقد أشار الرسول الى هذه الحقيقة فقال عن المسيح إنه اتضح أنه ابن الله بالقيامة من الأموات (رومية 1: 4) .
9 - ضرورة تجسّده:
(أ) لو كان الله قد ظهر لنا في مجده الخاص ليعلن لنا ذاته ويقربنا إليه، لما استطاع واحد منا أن يقف في حضرته، بل لسقط ميتاً في الحال أمامه فقد قال لموسى: الإنسان لا يراني ويعيش (خروج 33: 20) ، وبما أن الله لا يريد أن يرعبنا، بل يريد أن ندنو منه حباً فيه وشوقاً إليه، فكان من البديهي أن يظهر لنا في ناسوت مثل ناسوتنا. ويكون هذا الناسوت خالياً من الخطية، ليكون متوافقاً مع قداسته المطلقة.
(ب) بظهور الله في المسيح لم يتحيّز بحيّز بل ظل كما هو المنزَّه عن الزمان والمكان. وقد أشار المسيح من جهة لاهوته إلى هذه الحقيقة، فقال عندما كان بالجسد على الأرض إنه كان في نفس هذا الوقت، في السماء عينها (يوحنا 3: 13) ، كما قال: حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم (متى 18: 20) .
(ج) كما أنه بظهوره في المسيح ظل هو الله بكل خواصه. كما ظل ناسوت المسيح هو الناسوت بكل خواصه، لأنه لم يحدث بين اللاهوت وبين الناسوت اختلاط أو امتزاج يؤدي إلى حدوث تغيير في أيهما.
ومع كل فقد ظهر من خلال حياة المسيح الناسوتية مجد أخلاقي لا يقل في شيء عن ذاك الذي ينتظر ظهوره من الله نفسه، فآمن الأتقياء من البشر أنه ابن الله أو الله الظاهر في الجسد كما يتضح من يوحنا 1: 49 و2: 11 و23 و4: 39-42 و7: 31 و11: 27 ومتى 16: 16.
- عدد الزيارات: 1321