Skip to main content

الباب الثاني: الطرق البشرية للحصول على الغفران

القسم الأول من كتاب

فلسفة الغفران في المسيحية

الباب الثاني

الطرق البشرية للحصول على الغفران

 يحاول معظم الذين يدركون شناعة خطاياهم أن يسترضوا اللّه بوسائل شتى ليغفرها لهم. وأهم هذه الوسائل هي الصلاة والصوم، والتوبة والصدَقة، والاستشفاع بالقديسين والصالحين. ولتتضح لنا قيمة هذه الأمور كوسائل للحصول على الغفران نقول: لنفرض أنه عندما حُكم على إنسان بالإعدام لقتله آخر عمداً، أخذ يستعطف القاضي ويتذلل أمامه، أو أنه امتنع عن الطعام والشراب أمداً طويلاً، أو أنه تعهد بكل إخلاص أن لا يرتكب جريمة أخرى، أو أنه وهب كل أمواله للفقراء والمساكين، أو أنه التجأ إلى ذوي الشأن ليقوموا له بدور الوساطة والشفاعة.. فهل تُعتبر هذه التصرفات أمام نزاهة العدالة المطلقة أسباباً كافية لتبرئة الإنسان المذكور؟ أو هل هي حيثيات قانونية لإِلغاء أو تخفيف حكم الإِعدام الصادر ضده؟ طبعاً لا، لأن هذه التصرفات لا تستطيع أن تعيد إلى قوانين الدولة كرامتها بالدرجة التي تصبح معها كأنه لم يُعتَدَ عليها، ولا أن تعيد الحياة إلى القتيل حتى ينهض من موته ويحيا. ولذلك لا يمكن تبرئة هذا القاتل أو تخفيف الحكم الصادر ضده، بل يجب تطبيقه عليه كما هو، تنفيذاً لمطالب العدالة، وانتقاماً لروح القتيل أيضاً.

وعلى هذا النسق تماماً نقول: بما أن الخاطئ لم يُفسِد فقط نفسه التي ائتمنه اللّه عليها، بل تعدّى أيضاً على شريعته تعالى، إن لم يكن قد أساء كذلك إلى بعض الناس. وبما أن صلواته مهما طالت، وأصوامه مهما كثرت، وصدقاته مهما عظمت، وتوبته مهما صدقت، وشفاعة القديسين والصالحين (إن كانت لهم شفاعة) ، لا تستطيع أن تفي مطالب قداسة اللّه وعدالته. لأن هذه الأعمال:

(1) لا تستطيع أن تعيد إلى الخاطئ حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية، حتى يتيسَّر له التوافق مع اللّه في قداسته وغيرها من الصفات الأخلاقية السامية.

(2) لا تستطيع أن تُعيد إلى عدالة اللّه كرامتها بالدرجة التي تصبح معها كأنه لم يُعتَدَ عليها، حتى تعتبر هذه الأعمال تعويضاً مناسباً لحقوقها، لأن عدالة اللّه لا حدّ لقدرها، بينما الأعمال المذكورة محدودة في قدرها. والأمور المحدودة في قدرها لا تفي مطالب أمر لا حدَّ لقدره. إذاً فكل الأعمال الصالحة التي يعملها الخاطئ، وإن كانت لها قيمتها وقدرها من نواح خاصة (كما سيتضح فيما يلي) ، غير أنها ليست كافية لتأهيله للوجود مع اللّه أو التمتع بصفحه. ولا مجال للاعتراض على ذلك، إذ أن اللّه بقدر ما هو رحيم رؤوف هو عادل وقدوس، وهو كامل كل الكمال من جهة كل صفة من صفاته. فلا يمكن أن يغفر إلا إذا وُفِّيت مطالب عدالته، ولا يقرِّب أحداً إليه إلا إذا قدر أن يتوافق مع قداسته، وغيرها من الصفات الأخلاقية السامية.

ولكي لا ندع مجالاً للشك أمام أحد من جهة هذا الحق الإِلهي، ندرس كلاً من وسائل الغفران البشرية بشيء من التفصيل، في الفصول التالية.

 

- 1 -

الصلاة وعلاقتها بالغفران

 1 - الصلاة المسيحية وهدفها:

الصلاة في المفهوم المسيحي ليست مجرد ترديد كلمات الحمد والتعظيم للّه بما يصاحبها من وقوف وركوع، أو مجرد توسلات للحصول على الصفح والغفران بما يرافقها من رفع أيدي وخفضها، كما يظن بعض الناس. ونحن لا ننتقد السجود أو رفع الأيدي عند الصلاة، لأن الكتاب المقدس علّمنا هذا وذاك (أعمال 21: 5 ورؤيا 5: 14 و1تيموثاوس 2: 8) بل ننبه إلى أن هاتين الحركتين لا تجعلان للصلاة قيمة ما إذا كان القائم بهما غير حائز على رضى اللّه. فالصلاة قبل كل شيء هي الارتقاء بنفوسنا عن كل ما يتعلق بالعالم حتى نلتقي باللّه في أقداسه، ونحن في حالة التوافق معه في صفاته السامية. وفي هذا الجو السامي يمكن أن ندرك شيئاً من جلال اللّه ومحبته، فنتعبَّد له ونشكره من كل قلوبنا (يوحنا 4: 24 و1تسالونيكي 5: 18) . كما يمكن أن نعرف الأمور التي نحتاج فعلاً إليها، فنطلب منها ما يتفق مع مشيئته (1يوحنا 5: 14) ، ونتقبل منه بعد ذلك بالإِيمان إجابته الكريمة. كما يمكننا أن نعرف في هذا الجو، الخدمات التي يطلبها اللّه منا في العالم الحاضر، ونقبل منه المعونة التي تساعدنا على القيام بها بكل دقة وإِخلاص.

فالصلاة ليست فرضاً نقوم به كما يقوم العبد بواجب نحو سيده، بل هي صلة متبادلة بيننا وبين اللّه جل شأنه، لا نستطيع الاستغناء عنها لحظة، فنحن في حاجة إليها حاجتنا إلى الماء للارتواء أو الهواء للتنفس. ولم يعيّن اللّه لنا أوقاتاً محددة يجب علينا أن نصلي فيها، وذلك لثلاثة أسباب:

(أ) ليس هناك وقت أفضل من آخر لديه.

(ب) إنه على استعداد في كل الأوقات لسماع الصلاة.

(ج) إن حاجتنا إلى اللّه ليست مرتبطة بأوقات خاصة، بل نحن في حاجة إليه في كل حين.

لذلك وإن كنا نصلي في أوقات متفرقة من النهار، يجب أن نحفظ قلوبنا في حالة الصلة المستمرة باللّه مصلّين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح (أفسس 6: 18) . لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتُعلَم طلباتكم لدى اللّه (فيلبي 4: 6) . صلوا كل حين (لوقا 18: 1) ، صلوا بلا انقطاع (1تسالونيكي 5: 17) لأجل جميع الناس (1تيموثاوس 2: 1) .

 2 - شروط الصلاة في المسيحية:

(أ) يجب أن تكون بالروح والحق، بعمل روح اللّه في النفس، وذلك في حدود الحق الإِلهي الصافي بعيداً عن الشعائر والطقوس البشرية (يوحنا 4: 24) ، وبالذهن أيضاً (1كورنثوس 14: 15) ، وذلك مع القداسة القلبية التي تليق باللّه (عبرانيين 12: 14 ومزمور 24: 4) .

(ب) أن لا تكون منقولة عن أحد أو محفوظة عن ظهر قلب، بل أن تكون من إنشاء المصلي بتأثير روح اللّه في قلبه (مزمور 45: 1) .

(ج) أن لا تتكرر عباراتها بقصد إطالتها (متى 6: 7) .

(د) وإذا كانت الصلاة فردية، يجب أن لا تكون على مرأى من الناس بل في المخدع، إذ هناك يمكن للمصلي أن يختلي باللّه ويناجيه (متى 6: 5 و6) .

3 - عجز الخاطئ عن القيام بالصلاة:

بما أن الخاطئ أساء بخطيته إلى اللّه وكسر شريعته، فإنها تحول بينه وبين مواجهة اللّه والمثول في حضرته، ويصبح الخاطئ في ذاته عاجزاً عن التوافق مع الله في صفاته الأخلاقية السامية. ولا غرابة في ذلك، فنحن نعلم أن اختلاف الطبائع يحول دون التوافق. فالدنيء لا يتوافق مع النبيل، والبخيل لا ينسجم مع الكريم، والنجس لا يتآلف مع القديس. فالخاطئ لا يقدر أن يتصل من تلقاء ذاته باللّه أو يتحدث معه، ولا يقدر أن يرفع صلاة حقيقية إليه، وصلاته عبارات ينطق بها أمام من يتصوّر أنه اللّه، فيكون مثله مثل شخص يعيش في عالم الخيال، أو ممثل يؤدي دوراً من الأدوار. وإن شئت، فقُل مثل إنسان يرفع بوق (التليفون) إلى فمه، ودون أن يتصل بأحد ما. فإنه يتكلم ما شاء له الكلام، دون أن يكون هناك سميع أو مجيب.

الاعتراضات التي تُوجَّه ضده هذه الحقائق والرد عليها

1 - لا يمكن أن يتغاضى الله عن صراخ الناس حتى الخطاة منهم، لأنه خالقهم، والخالق لا يهمل خلائقه.

الرد: إذا وقع الخطاة في ضيقة ما، وصرخوا من كل قلوبهم إلى اللّه، فإنه ينقذهم من هذه الضيقة. لكن هذا الإِنقاذ لا يدل على أنه قرَّبهم إليه أو غفر لهم خطاياهم، لأن صراخهم له لا يُعيد إليهم حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية، حتى يستطيعوا التوافق مع اللّه في قداسته وغيرها من الصفات الأخلاقية السامية، أو يعيد إلى حقه قدسيته بالدرجة التي يصبح معها وكأنهم لم يعتدوا عليه، حتى يصفح عنهم. فمثلهم والحالة هذه مثل جماعة من الأشرار أساءوا كثيراً إلى إنسان طيب القلب عظيم القدر، ومع ذلك يُعتَبرون بلا لوم أمامه، أو صاروا من الخاصة الذين يطيب له العيش معهم.

2 - الخطاة إن لم يكونوا من الملحدين أو المشركين، ليسوا بعيدين عن اللّه، بل يعرفون الشيء الكثير عنه. ولذلك إذا طلبوا منه الغفران، يغفر لهم ولا شك.

الرد: هناك فرق كبير بين معرفة اللّه والمعرفة عن اللّه. فالثانية تدل فقط على إدراك بعض الأمور عنه، أما الأولى فتدل على العلاقة الشخصية به والتوافق الكلي معه. فمعرفة اللّه ، وليس المعرفة عن اللّه هي التي تؤهّل صاحبها للاقتراب إليه والإفادة منه. والذين يعيشون في الخطية لا يعرفون الله، بل يعرفون فقط عنه، لأنهم لو كانوا يعرفونه لالتصقوا به، ولما أساءوا إليه. وإذا كان الأمر كذلك، لا تكون لهؤلاء الناس علاقة شخصية باللّه، ولا يكون إيمانهم الذي يتشدقون به إيماناً حقيقياً بل إيماناً اسمياً، والإيمان الاسمي لا وزن له ولا قدر عنده الله. فالشياطين أيضاً يؤمنون به، ومع ذلك فإنهم بعيدون عنه كل البعد.

كما أن طلب الصفح والغفران وإن كان يدل على الرغبة في استرضاء اللّه والتقرب إليه، لكنه في ذاته (أ) لا يعيد إلى حق اللّه قدسيته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يُعْتَد عليه، حتى يكون تعويضاً مناسباً له. (ب) ولا يعيد إلى طالبي الغفران حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية، حتى يتسنَّى لهم التوافق مع اللّه في كماله كما ذكرنا. لذلك لا يمكن أن يصفح اللّه عن الخطاة ويقرّبهم إليه لمجرد طلب الغفران منه.

3 - إذا كان الأمر كذلك، فكيف يتصل الصوفيون باللّه ويرونه ويشعرون بسرور باطني في العلاقة معه، مع أنهم خطاة مثلنا؟

الرد: الأتقياء من الصوفيين (على اختلاف أديانهم) أفضل من غيرهم، لانصرافهم عن أهواء العالم وتأملهم في اللّه دون سواه، لكن إن لم يكونوا قد نالوا منه طبيعة روحية تؤهِّلهم للتوافق معه في قداسته وغيرها من صفاته الأخلاقية السامية، وبواسطةٍ ما وُفِّيت مطالب عدالته من نحوهم، لا يمكن أن تقوم بينهم وبين اللّه علاقة حقيقية، فيكون موقفهم من اللّه موقف غيرهم من الخطاة سواء بسواء. ويكون السرور الذي يقولون عنه ليس صادراً عن علاقة حقيقية لهم باللّه، بل عن تصوّرهم أن لهم علاقة معه، وأنهم يقومون بالواجب عليهم من نحوه. ويكون هذا السرور وهمياً لا حقيقياً، ويكون شأنهم في ذلك شأن الناس الذين بسبب سيطرة عواطفهم على عقولهم، كثيراً ما يعتقدون أن الخواطر التي تجول في نفوسهم، هي حقائق واقعة أمامهم، يتأثرون بها ويتحدثون عنها كأنهم يرون أحداثها فعلاً قبالتهم، وهؤلاء الناس كما نعلم، لا يوثق بكل خبر ينقلونه إلينا.

وقد أعلن الوحي بعبارات لا تقبل الشك أن اللّه لا يطيق صلاة الخطاة، وأنه ليست لهم علاقة به على الإطلاق. فقد قال من يحوّل أذنه عن سماع الشريعة، فصلاته أيضاً مكرهة (أمثال 28: 9) . كما قال للخطاة آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع (إشعياء 59: 2) . وواضح من هذه الآية أن الآثام لا تفصل بين اللّه وبيننا، بل بيننا وبين اللّه، لأنه يتوجّه إلينا بمحبته التي لا حدّ لها في كل حين، ويدعونا للدنوّ منه والتمتع بهباته. لكننا نحن الذين في عنادنا أو قصورنا لا نتجاوب معه. وقال اللّه لهم أيضاً: حين تبسطون أيديكم أستر عينيَّ عنكم، وإن كثَّرتم الصلاة لا أسمع (إشعياء 1: 15) . وقد اختبر داود النبي هذه الحقيقة فقال: إنْ راعيْتُ إثماً في قلبي، لا يستمع لي الرب (مزمور 66: 18) . وقال إنه لا يستطيع أن يصلي للّه إلا الطاهر اليدين والنقي القلب (مزمور 24: 4) والمراد بطهارة اليدين ليس غسلهما بالماء، بل خلوّهما من عمل الشر، فالله قدوس كل القداسة ولا يطيق الإِثم.

وقد أعلن الوحي أن الأنبياء والرسل أنفسهم لم يستطيعوا أن يواجهوا اللّه. فموسى النبي مع أنه كليم اللّه، قال عندما تجلى اللّه له: أنا مرتعب ومرتعد (عبرانيين 12: 21) . وإشعياء النبي، على الرغم من أمانته وتقواه، قال عندما رأى اللّه في رؤيا خاصة: ويل لي! إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود ءأي رب الجنود السمائية، أو الملائكةى (إشعياء 6: 5) . ويوحنا الرسول مع محبته الشديدة للرب وعلاقته القوية به، سقط على وجهه كميت عندما تراءى له الرب في مجده (رؤيا 1: 17) لأن الإِنسان في طبيعته البشرية الراهنة، لا يستطيع أن يمثل في حضرة اللّه مهما بلغ أسمى درجات التقوى. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الإتصال باللّه والتمتع به بعيدان كل البُعد عن الخطاة، مهما كثرت صلواتهم وتضرعاتهم.

4 - هل يستوي الخاطئ الذي يطلب من اللّه بكل تذلل وإخلاص أن يرحمه ويغفر له خطاياه، والخاطئ الذي لا يبالي بالصلاة، أو يكتفي بالصلاة الشكلية التي لا قيمة لها؟

الرد: طبعاً لا يستويان، ومن المؤكد أن اللّه ينظر إلى الأول بعين العطف والشفقة. لكن عطف اللّه وشفقته شيء، والاعتقاد بأن الصلاة هي التي تجلب الغفران والقبول أمام اللّه شيء آخر. والصلاة لا تكفي وحدها لإيفاء مطالب عدالة اللّه، أو إعادة الإنسان إلى حالة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية، ولا يمكن أن تكون ثمناً للغفران أو وسيلة للتمتع باللّه. كل ما في الأمر أنها إذا كانت بإخلاص، فهي تهيئ فقط القائم بها للحصول على هذين الامتيازين، إذا وُفيت مطالب عدالة اللّه وقداسته من جهته بوسيلة إلهية خاصة، كما كانت الحال مع كرنيليوس الوارد ذكره في (أعمال 10) . وهذه الوسيلة هي موضوع حديثنا في الأبواب التالية.

 

- 2 -

الصوم وعلاقته بالغفران

 1 - لماذا يصومون؟

يصوم كثيرون إما للتمسك بعقيدة دينية ابتغاء مرضاة اللّه، أو ليشعروا بالجوع حتى يعطفوا على الفقراء والمساكين، أو ليحافظوا على المظاهر الدينية بين إخوانهم، أو ليحسّنوا حالتهم الصحية على نحو ما. لكن هذه الأغراض بعيدة عن حق اللّه، لأن العقيدة الدينية إن كانت لا تؤدي إلى التحرّر من الخطية والتوافق مع اللّه في قداسته وصفاته الأخلاقية السامية الأخرى، تصبح فلسفة شخصية لا عمل لها إلا شحن العقل بنظريات وآراء خاصة. ولأن العطف على الفقراء والمساكين لا يتولد من الإحساس بالجوع، بل من الخلق الكريم. والدليل على ذلك أن كثيرين من الصائمين لا يبالون في أثناء الصوم بهؤلاء أو أولئك. وإن تصدّقوا أحياناً عليهم في أثنائه، قلما يبالون بهم بعد انتهائه. ولو كان الغرض من الصوم هو الإِحساس بالجوع، لما كان للفقراء أن يصوموا أبداً، لأنهم يحسّون بالجوع دائماً! أما الصوم لمجرد احترام المظاهر الدينية بين من نعاشرهم فلا يُعتبر فضلاً في نظر اللّه، بل هو رياء وتظاهر منا بغير الحقيقة. ولا علاقة لتحسين الحالة الصحية بعبادة اللّه، فكثيراً ما يستغل الناس صحتهم الجسدية في عمل الخطية.

فلا ثواب من اللّه لمن يصوم لأجل غرض من الأغراض المذكورة.

وقد قال اللّه للذين يصومون عن الطعام دون أن يُقلِعوا أولاً عن الشر: لما صمتم ونحتُم، فهل صمتُم لي أنا؟ ولما أكلتم ولما شربتم، أمَا كنتم أنتم الآكلين وأنتم الشاربين.... اقضوا قضاء الحق، واعملوا إحساناً ورحمة (زكريا 7: 5-9) . وقال للسائلين: لماذا صُمنا ولم تنظر، ذلّلنا أنفسنا ولم تلاحظ؟ : في يوم صومكم توجِدون مسرة (لأنفسكم) ، وبكل أشغالكم تُسخِّرون (عمَّالكم) ... أمثل هذا يكون صومٌ أختاره: يوماً يذلل الإِنسان فيه نفسه، يحني كالأَسَلة رأسه ويفرش تحته مِسْحاً ورماداً؟ هل تسمي هذا صوماً ويوماً مقبولاً للرب؟ أليس هذا صوماً أختاره: حل قيود الشر، فك عقد النير (عن المظلومين) ، إطلاق المسحوقين (الأبرياء) أحراراً؟ أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تُدخل المساكين التائهين إلى بيتك؟ (إشعياء 58: 3-7) . ء الأَسَلة نبات له أغصان هزيلة تتدلى إلى أسفل، والمِسَح هو الخيش الذي يُصنع من أردأ أنواع الكتان. وكان بعض الناس يجلسون عليه أو يلبسونه بعد صبغه باللون الأسود، كعلامة للحزن والاتضاع أمام اللّه. أما النير فهو قطعة الخشب التي توضع على عُنُق الثيران في أثناء الحرث وغيره، وتستعمل هنا مجازاً للدلالة على الذل والاستعبادى.

 2 - الصوم المسيحي وهدفه:

الصوم لغةً، هو الانقطاع عن شيء ما. ويُراد به في الكتاب المقدس ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، أو الشرور والآثام، بل والامتناع لمدة من الزمن أيضاً عن كل ما يشغل المرء عن قضاء مدة طويلة في حضرة اللّه، بهدف أن يتفرَّغ الصائم تفرغاً تاماً لسكب قلبه أمام اللّه والتضرع بلجاجة إليه في هذه المدة. وذلك إما لأجل النمو في الحياة الروحية، أو خلاص بعض الأشخاص من الخطية، أو إنقاذ آخرين من ضيقة أو بلية، أو غير ذلك من الأمور التي تمجد اللّه وتعود بالخير على الناس. فليس الصوم إذاً غرضاً مقصوداً لذاته حتى يكون له جزاء خاص، بل هو وسيلة للقيام بالصلاة على أفضل حال. لذلك يقرن الوحي الصوم بالصلاة، فسجَّل عن الرسل أنهم صاموا وصلوا (أعمال 13: 3) ، وأن الروح النجس العنيد لا يخرج إلا بالصوم والصلاة (متى 17: 21) ، وأن المؤمنين يجب أن يتفرغوا للصوم والصلاة (1كورنثوس 7: 5 وعزرا 8: 23 ونحميا 1: 4 ودانيال 9: 3 ويوئيل 2: 12) .

فالصوم في المسيحية مثل الصلاة تماماً، ليس فرضاً بل هو عمل حيوي لا نستطيع الاستغناء عنه.

 3 - شروط الصوم:

(أ) يجب أن يكون الصوم بدافع من رغبتنا الشخصية، لحاجتنا الماسة إلى بركة من اللّه لنا أو لغيرنا من الناس، وليس لمجرد طاعة أمرٍ أو وصية. ولهذا لم يحدد الكتاب المقدس أوقاتاً للصوم. وأكثر المؤمنين قرباً من اللّه، أكثرهم صياماً.

(ب) الصوم عندما يكون شخصياً وخاصاً، يجب أن لا يبدو لأحدٍ من الناس، بل يجب أن يكون بين الصائم وبين اللّه فحسب (متى 6: 16-18) .

(ج) لا يتجه الصائم إلى شيء من المتع الجسدية مثل الاستماع إلى الأغاني العالمية أو الانصراف إلى التسليات الدنيوية، لأن هذه الأمور إن لم تعمل على إثارة الشهوات والأهواء في النفس، فهي تُبعِدها عن التوافق مع اللّه في قداسته. فعلى المؤمنين الحقيقيين أن يتجنّبوها ليس في وقت الصيام فحسب، بل وفي كل الأوقات، حتى لا تتعطل صلتهم الروحية باللّه.

مما تقدم يتضح لنا أن اتهام المسيحيين بأنهم لا يصومون عن الطعام والعلاقات الزوجية إلا في وقت نومهم، هو محض افتراء.

 

4 - عجز الخاطئ عن القيام بالصوم حسب مشيئة اللّه:

فمن هو الذي يدرك معنى الصوم، ويقدر أن يمارسه ويحصل على الفوائد المترتبة عليه؟ الجواب: ليس الشخص السالك في الخطية، بل البعيد عنها والمتمتع أصلاً بالعلاقة الحقيقية مع اللّه. كما أن هذا الشخص لا يريد من اللّه جزاءً عن صومه، إذ يكفيه أنه بواسطة الصوم يقدر أن يتمتع باللّه أكثر ويخدمه أكثر.

 

 الاعتراضات التي تُوجَّه ضد هذه الحقائق والرد عليها:

 1 - الصوم يضعف الجسد ويؤدي إلى التخلص من الخطية، كما يساعد على التحلي بالصبر والتسامي إلى حياة الصَفاء مع اللّه، لذلك يكون هو السبيل إلى الغفران والقبول أمام الله.

الرد: (أ) ليست الخطية في الجسد المادي فيمكن تجنُّبها بإضعافه عن طريق الامتناع عن الطعام والشراب مدة من الزمن، بل هي في النفس. فيد السارق (مثلاً) لا تختلف في تركيبها الجسماني عن يد الأمين، إنما الفارق بينهما هو أن نفس الثاني أمينة توعز إليه بمراعاة الأمانة، أما نفس الأول فخائنة توعز إليه بالسرقة. ومما يثبت ذلك أن معظم الصائمين، وإن كانوا لا يفعلون في الظاهر الخطايا التي اعتادوا عليها، غير أنهم قد يشتهونها ويفكرون فيها ويتحدثون عنها، وهو خطية. فالصوم وحده لا يعيد إلى الخطاة حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية، وبالتالي لا يؤهلهم للتمتع باللّه أو التوافق معه في صفاته الأدبية السامية.

(ب) الصوم وإن كان في أحسن حالاته مظهراً من مظاهر الاتضاع والتذلل أمام اللّه، غير أنه لا يعيد إلى عدالته حقها بالدرجة التي تصبح معها كأنه لم يُعْتَدَ عليها، لأن أثر الصوم محدود، ومطالب عدالة اللّه ليس لها حدود، والشيء المحدود لا يفي مطالب أمر ليس له حدود، فلا يكون الصوم أيضاً وسيلة للحصول على الصفح والغفران.

2 - هل يستوي الخاطئ الذي يصوم بتذلل وإخلاص للّه ليرحمه ويغفر خطاياه، والذي لا يصوم، أو يصوم للأغراض الشخصية السابق ذكرها؟.

الرد: طبعاً لا يستويان. ومن المؤكد أن اللّه ينظر إلى الأول بعين العطف والشفقة، لكن عطف اللّه وشفقته شيء، والاعتقاد بأن الصوم هو الذي يأتي لنا بالغفران ويؤهّلنا للتمتع باللّه شيء آخر. إذ أن الصوم، لأنه لا يفي وحده مطالب عدالة اللّه وقداسته، لا يمكن أن يكون ثمناً للغفران أو التمتع باللّه. كل ما في الأمر أنه إذا كان بإخلاص، فهو يهيّئ القائم به للحصول على هذين الامتيازين، على شرط أن يكون هناك أولاً إيفاء لمطالب عدالة اللّه وقداسته بوسيلة إلهية خاصة، كما كانت الحال مع كرنيليوس (أعمال 10) .

 

- 3 -

التوبة وعلاقتها بالغفران

 1 - ما هي التوبة؟

ليست التوبة ندماً على فعل الخطية فحسب، بل هي أيضاً الانصراف الكلي عنها، إكراماً لله ومحبة فيه. أما الامتناع عن الخطية لمجرد الخوف من نتائجها، أو الامتناع عنها مع بقاء التفكير فيها واشتهائها، فلا يُعتبر في نظر اللّه توبة على الإطلاق، بل يُعتبر في الحالة الأولى خدمة للصحة والذات، وفي الحالة الثانية خداعاً للنفس وتضليلاً لها. ولذلك قال الوحي عن الخطاة إنهم يجب أن يتوبوا عن خطاياهم، ويرجعوا إلى اللّه، عاملين أعمالاً تليق بالتوبة (أعمال 26: 20) . كما قال لهم: توبوا وارجعوا عن كل معاصيكم. واعملوا لأنفسكم قلباً جديداً وروحاً جديدة (حزقيال 18: 30 و31) .

 2 - توبتنا في ضوء الحقيقة:

بما أننا مهما تُبنا عن الخطية إكراماً للّه ومحبة فيه، قد نخطئ أحياناً بالقول والفكر، إن لم يكن بالفعل أيضاً. وبما أن الخطأ أياً كان نوعه، يحرم النفس من التوافق مع اللّه في صفاته الأخلاقية السامية. إذاً فليست هناك في الواقع توبة كاملة لأحد منا أمام اللّه.

 3 - أثر التوبة من جهة الغفران والقبول أمام اللّه:

لنفرض أن إنساناً اختلس مبلغاً من المال من الهيئة التي يعمل فيها. وكانت الضرورة تقضي بسداد هذا المبلغ إليها، وإلا فُصل من عمله وقُدم للمحاكمة. ولكن بدل أن يسعى للسداد أخذ يبكي على جريمته ويعلن توبته عنها، فهل يستطيع بتصرفه هذا أن يمحو ما لحق به من وزر، أو يصبح أهلاً للبقاء في عمله؟ طبعاً كلا! وإذا كان الأمر كذلك، ألا يكون بكاؤه وتوبته بدون جدوى، إلا إذا أشفق عليه إنسان كريم، وقام بسداد المبلغ المختَلَس للهيئة المذكورة نيابة عنه؟!

وبما أننا بارتكاب الخطية نتعدى على حق اللّه ونفسد أنفسناً أيضاً، وبما أن التوبة مهما صدقت لا تعيد إلى حق اللّه قدسيته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يُعتَد عليه (لأن أثر هذه التوبة محدود، وحق اللّه غير محدود، والشيء المحدود لا يفي مطالب أمر ليس له حدود) ، أو تعيد إلى نفوسنا حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية (لأن التوبة مهما بلغت أسمى درجات الإخلاص والأمانة، لا تجعلنا كاملين في كل ناحية من النواحي) ، لذلك لا نستطيع بالتوبة أن ننال غفراناً من اللّه أو قدرة على التوافق معه والتمتع بحضرته، إلا إذا وُفِّيت أولاً مطالب عدالته وقداسته من نحونا بوسيلة إلهية خاصة، كما ذكرنا.

 

 الاعتراضات التي تُوجَّه ضد هذه الحقائق والرد عليها:

 1 - كيف لا تكون التوبة الحقيقية وبدء صفحة جديدة في الحياة، وسيلة للصفح عما مضى من الخطايا؟

الرد: إذا تاب إنسان توبة حقيقية عن الخطية في كل مظهر من مظاهرها (وإن كان هذا من المتعذر على الإِنسان القيام به من تلقاء ذاته، كما ذكرنا) ، فإنه لا يكون قد فعل أكثر مما يجب عليه، ولا يكون قد أتى جميلاً يمكن أن يكون تعويضاً عن خطاياه الماضية. حقاً قد ينسى الإنسان هذه الخطايا، وقد ينساها الناس أيضاً، لكن اللّه لا ينساها، فالماضي والحاضر والمستقبل حاضر أمامه. ويقول الحكيم اللّه يطلب ما قد مضى (جامعة 3: 15) . فالتوبة مهما كان شأنها ليست كافية للصفح عما مضى من خطايا. ولإِيضاح هذه الحقيقة إلى حدٍّ ما، لنفرض أن الموظف المختلِس تاب عن جريمته بعد ارتكابها. ولكن بعد مدة من الزمن فحص مفتش دفاتره واكتشف ما فيها من اختلاس، فهل يعتبر هذا الموظف أميناً في عمله ولا يجوز معاقبته؟ الجواب: طبعاً كلا. وإذا اعتذر الموظف بأن الاختلاس حدث من مدة طويلة، وأنه كان أميناً بعد ذلك، فهل يقبل المفتش اعتذاره ويقرر براءته؟ طبعاً كلا. وهكذا الحال من جهتنا أمام اللّه بالنسبة إلى الخطايا السالفة، على فرض أننا عشنا بعدها دون أن نعمل خطية على الاطلاق.

2 - ألم يصفح اللّه عن أهل نينوى عندما صاموا وتابوا (يونان 3: 5-10) ؟ فكيف لا تكون التوبة هي الوسيلة للغفران والقبول أمام اللّه؟

الرد: لم يكن الغرض من الصفح عن أهل نينوى تقريبهم إلى اللّه أو إعطاءهم طبيعة روحية يتوافقون بها معه إلى الأبد، بل كان الغرض الأول والأخير من هذا الصفح (كما يتضح من سفر يونان) ، هو فقط رفع الكارثة التي كان اللّه مزمعاً أن يصبّها عليهم بسبب فداحة آثامهم. وقد ذكرنا فيما سلف أن اللّه يسمع للخطاة عندما يطلبون منه بكل قلوبهم أن ينجيهم من ضيقة ما.

3 - هل يستوي عند اللّه من يتوب ابتغاء مرضاته، ومن يتوب لأغراض شخصية، أو لا يتوب على الإِطلاق؟

الرد: طبعاً لا يستويان، فمن المؤكد أن اللّه يعطف على الأول ويفتح أمامه المجال للغفران والقبول لديه، إذا تم إيفاء مطالب عدالته وقداسته من جهة هذا الإِنسان بوسيلة إلهية خاصة كما ذكرنا، لأن اللّه بقدر ما هو رحيم رؤوف هو عادل قدوس.

 

- 4 -

الصدَّقة وعلاقتها بالغفران

 1 - حدود الصدقة والأعمال الصالحة في المسيحية:

يجب على المسيحي أن يقدم للأعمال الخيرية عُشر ما يكسبه على الأقل (تثنية 12: 17 ومتى 5: 20) . وقال الوحي: كونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع (1تيموثاوس 6: 18) . ويجب أن يكون عمل الخير والصلاح موجَّهاً إلى جميع الناس (1تسالونيكي 5: 15) حتى إلى الأعداء منهم طاعةً للأمر: إن جاع عدوك فأطعِمه وإن عطش فاسْقِه (رومية 12: 20) ، والأمر: أحِبوا أعداءكم. بارِكوا لاعنيكم. أحسِنوا إلى مبغضيكم (متى 5: 44) .

 2 - الصدقة في نظر اللّه:

ليست الصدقة وغيرها من الأعمال الصالحة في المفهوم المسيحي أعمالاً اختيارية يجوز للمرء إتيانها أو الامتناع عنها تبعاً لإِرادته، حتى يكون له فضل عند اللّه إذا ضحّى بشيء في سبيل القيام بها، بل هي واجب يتحتم عليه القيام به، وإلا اعتُبر مذنباً (كما قلنا في الباب الأول) . فإذا ارتكب إنسان خطية ثم قدم بعد ذلك صدقة أو عمل عملاً صالحاً، لا يكون قد عمل جميلاً يمكن اعتباره تعويضاً عن الخطية التي ارتكبها، حتى يستحق الصفح والغفران. لذلك أمرنا المسيح: متى فعلتم كل ما أُمرتم به (من الخير والصلاح) فقولوا إننا عبيد بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا (فحسب) (لوقا 17: 10) . ولو كانت الصدقة والأعمال الصالحة تغفر الخطايا، لكان الذين يتمتعون بالغفران هم فقط الأغنياء ومن لهم القدرة على القيام بهذه الأعمال، وهذا غير معقول.

 3 - صاحب الفضل في المال الذي بين أيدينا، وفي الأعمال الصالحة التي نقوم بها:

المال الذي في أيدينا والصحة التي نتمتع بها ليست مِلكاً لنا بل هما من فضل اللّه علينا. لأنه لو كان قد سمح (مثلاً) بولادتنا من عائلات فقيرة جاهلة، أو أصابتنا أمراض مستعصية عُضالة، لكنَّا الآن فقراء معدمين أو مقعَدين عاجزين عن القيام بعمل من الأعمال مثل كثيرين من بني جنسنا. فعندما نعطي الفقراء شيئاً من مالنا، أو نستخدم صحتنا في القيام بأي عمل صالح، لا نكون قد ضحَّينا بشيء من عندنا، ولا نكون قد أسدينا للّه جميلاً نستحق عنه ثواباً.

وقد أدرك داود النبي هو ورجاله هذه الحقيقة الثمينة، فبعد أن قدموا ما يعادل ملياراً من الجنيهات الذهبية، لأجل بناء الهيكل، قال داود للّه لكن مَنْ أنا ومن هو شعبي، حتى نستطيع أن ننتدب؟ (أي أن نقوم من أنفسنا بعمل) لأن منك الجميع ومن يدك أعطيناك. أيها الرب إلهنا، كل هذه الثروة التي هيأناها لنبني بيتاً لاسم قدسك، إنما هي من يدك ولك الكل (1أخبار 29: 14 و16) ، كما قال بطرس الرسول من بعده إن كان يخدم أحد، فكأنه من قوة يمنحها اللّه (1بطرس 4: 11) .

 4 - العيوب الكامنة في الصدقة والأعمال الصالحة:

كثيراً ما تكون الصدقة والأعمال الصالحة التي يقوم بها الخطاة ملوثة بجراثيم البُخل والتقتير، أو الفخر والتباهي، أو الرغبة في جزاء من اللّه أو الناس، بسبب صدورها من الطبيعة البشرية الفاسدة السائدة عليهم. وهذا يوضح أن هذه الصدقة والأعمال الصالحة مملوءة بنقائص متعددة، الأمر الذي يجردها من كل صلاح حقيقي يمكن أن يبقى فيها. وقد أدرك إشعياء النبي هذه الحقيقة، فصرخ: صرنا كلنا كنجس، وكثوب عِدّة كل أعمال برنا (وليس أعمال شرنا فحسب) (إشعياء 64: 6) . ءثوب العِدّة هو الثوب الملطخ بالطمث، وهو نجس بحسب الشريعة اليهوديةى.

وإن كانت هذه الحقيقة تسمو فوق إدراك الكثيرين، لكن من سمت نفوسهم وارتقت استطاعوا أن يدركوها كما أدركها هذا النبي. فمثلاً قال كيركجارد رائد الوجودية الروحية: إن أفضل أعمالنا مثل أشرّها، يحتاج إلى غفران اللّه . ولإيضاح هذه الحقيقة إلى حد ما نقول: إذا تطلعنا إلى خضروات مغسولة، قد لا نرى فيها قذارة ما. لكن إذا وضعناها تحت عدسة الميكرسكوب نرى فيها آلاف الجراثيم. وهكذا الحال من جهة الأعمال الصالحة التي نقوم بها، فإننا وإن كنا نراها طيبة، غير أن اللّه يرى فيها الكثير من النقائص والعيوب. ولا غرابة في ذلك، ففي ضوء كماله المطلق تبدو السماء نفسها غير طاهرة، ويبدو الملائكة أنفسهم حمقى (أيوب 4: 18) !!

مذكرة توضيحية عن سورين كيركجارد:

وُلد هذا الفيلسوف في الدانمارك سنة 1813 ويُعتبَر من أشهر علماء النفس في العصر الحديث، وأكثرهم تفكيراً في الأمور الروحية. ولم يبتدع رأياً فلسفياً معيناً، بل عُني بالوجود الفعلي أكثر من النظري. ومن أهم آرائه (1) أن اللّه لا يشرق بمعرفته على الإنسان، إلا إذا وقف الإنسان أمامه مجرداً من كل تصنُّع وادّعاء بالصلاح، معترفاً بفساد طبيعته والمصير المرعب الذي ينتظره. (2) إن الحق الروحي ليس هو الحق النظري، بل هو الحق العملي المؤيَّد بالاختبار الشخصي، والذي يدفع المرء ثمنه بنفسه. لذلك يجب على طالب الحق أن لا يكتفي بالتطلع إليه من النافذة أو الشرفة، بل أن ينزل إلى الطريق ويسير في ركابه، حتى تمتزج نفسه به. وهذه الآراء تُعتبر تفسيراً صحيحاً لأقوال الكتاب المقدس عن الحياة الروحية.

 5 - أثر الصدقة والأعمال الصالحة من جهة الغفران والتمتع باللّه:

لنفرض أن خادماً تعدَّى على ملك عظيم نبيل وأهانه إهانة شنيعة، وبعد ذلك قدَّم إليه هذا الخادم هدية ثمينة، فهل تستطيع هذه الهدية وحدها أن تمحو عن الملك العظيم النبيل ما لحقه من إهانة، أو تجعله يُسرّ بالخادم المذكور ويقربّه إلى حضرته؟ طبعاً كلا وكلا. وعلى هذا النسق نقول: نظراً لأن الصدقة والأعمال الصالحة التي يقوم بها بعض الخطاة (حتى إن كانت خالية من كل العيوب) ، لا تستطيع أن تعيد إلى حق اللّه قدسيته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يُعتَدَ عليه، لأن هذه الأعمال محدودة في قدرها، وحقّ اللّه لا حدّ لقدره، والأشياء المحدودة في قدرها لا تفي مطالب أمر لا حد لقدره، أو تؤهل الخطاة للتوافق مع اللّه في قداسته وكماله، لأنها لا تستطيع أن تعيدهم إلى حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية. لذلك لا يمكن أن تكون هذه الأعمال وحدها ثمناً للغفران أو التمتع باللّه.

وقد أدرك الأنبياء هذه الحقيقة، فكانوا يبكون على خطاياهم بالرغم من الأعمال الصالحة الكثيرة التي كانوا يقومون بها. فداود النبي كان يعوّم سريره بدموعه ويذوّب فراشه كل ليلة (مزمور 6: 6) ، ويقول: بليت عظامي من زفيري اليوم كله (مزمور 32: 3) ، و ليست في عظامي سلامة من جهة خطيتي، لأن آثامي قد طمت فوق رأسي كحِمل ثقيل أثقل مما أحتمل. قد أنتنت وفاحت حُبُر ضربي من جهة حماقتي (مزمور 38: 3-5) ءالحُبُر هي الجروح العميقة التي وإن شُفيت، لا تزول آثارها من الجسمى.

 

اعتراض وَجِّه ضد هذه الحقائق، والرد عليه

 وهل يستوي الخاطئ الذي يقوم بالأعمال الصالحة ابتغاء مرضاة اللّه، والذي يقوم بها لأغراض شخصية، أو لا يقوم بها إطلاقاً؟ى.

الرد: طبعاً لا يستويان، لأن اللّه لعدالته لا يمكن أن يهمل ذرة من الخير يقوم بها إنسان ابتغاء مرضاته، بل لا بد أن يجازيه عنها خيراً. لكن بما أن الجزاء يكون من جنس العمل، وليس في الأبدية مجال للمال أو الخدمات المادية التي يقوم بها الناس في العالم الحاضر حتى يكافئهم اللّه هناك بمثل ما فعلوا، لذلك فالخطاة الذين يتصدَّقون ويعملون أعمالاً صالحة ابتغاء مرضاة اللّه، ينالون مكافأتهم من اللّه في العالم الحاضر بجزاءٍ من نوع أعمالهم. فيزيد مثلاً من ثروتهم، ويهيّئ لهم سُبل النجاة من الضيقات التي يتعرضون لها. لكن عند انتقالهم من العالم الحاضر سيكونون بعيدين عن اللّه مثل غيرهم من الخطاة، لأن الصدقة والأعمال الصالحة لا يفيان في ذاتيهما مطالب عدالة اللّه، ولا تمدّان القائمين بهما بطبيعة روحية تؤهلهم للتوافق معه في قداسته وصفاته الأخلاقية الأخرى، كما ذكرنا فيما سلف.

أما الذين، مع قيامهم بأعمال الخير، يمقتون الخطية ويتضرعون إلى اللّه بتذلل ليخلصهم منها، فإنه يتجه إليهم بكل عطف، ويهيئ لهم السبيل للحصول على الغفران والتمتع بشخصه، إذ وُفِّيت مطالب عدالته وقداسته بوسيلة خاصة، كما كانت الحال مع كرنيليوس (أعمال 10) .

 

- 5 -

الشفاعة وعلاقتها بالغفران

1 - عجز الأنبياء عن الشفاعة أمام اللّه:

صحيح أن هؤلاء الأنبياء أفضل من غيرهم من الناس، لكنهم في ذواتهم خطاة مثلهم، إن لم يكن بالفعل، فبالقول والفكر كما ذكرنا في الباب الأول، لذلك فإنهم من تلقاء أنفسهم لا يتوافقون مع اللّه في صفاته السامية، كما يقعون من جهة استحقاقهم الذاتي تحت طائلة قصاصه الأبدي، فلا يستطيعون أن يتشفَّعوا لأجل خلاص أحدٍ من قصاص خطاياه أو تأهيله للوجود مع اللّه، لأنهم أنفسهم يحتاجون إلى هذا وذاك. والكتاب المقدس بإعلانه أن القديسين خطاة مثل باقي الناس (جامعة 7: 20) لا يقصد التشهير بهم، بل يعلن حقيقة أمرهم حتى لا يعتمد عليهم أحد في أمر الخلاص من الخطية ونتائجها.

 2 - عجز الملائكة عن الشفاعة لدى اللّه:

صحيح أن الملائكة كائنات سامية طاهرة في نظرنا، لكنهم ليسوا كذلك في نظر اللّه الكلي الكمال. فقد قال الوحي إنه ينسب للملائكة حماقة (أيوب 4: 18) . كما أنها كائنات محدودة، والكائنات المحدودة لا تستطيع أن تفي مطالب عدالة اللّه وقداسته غير المحدودة. فشفاعة الملائكة (إن كانت لهم شفاعة) لا تجلب لنا الغفران ولا تقرّبنا إلى اللّه، لأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بعد إيفاء مطالب عدالته وقداسته.

 

الاعتراضات التي تُوجَّه ضد الحقائق السابقة والرد عليها

 1 - إذا كانت شفاعة القديسين لا تُجدي، فلماذا أراد اللّه أن يعفو مرة عن الأشرار الذين كانوا في سدوم وعمورة، لو كان بينهم عشرة أبرار (تكوين 18: 32) ؟

الرد: لا يُراد بالأبرار هنا أشخاص خالون من الخطية، بل أشخاص كانوا يخافون اللّه ويحاولون جهد الطاقة أن يعملوا بوصاياه، كما كانوا يقدمون له الذبائح الكفارية عن الخطايا التي يرتكبونها، (كما ذكرنا في الباب الأول، وكما سيتَّضح بالتفصيل في الباب التالي) . ولا شك أن للقديسين مقاماً خاصاً لدى اللّه، لكن لا شك أيضاً أن هذا المقام لا يطغى على مطالب عدالة الله وقداسته. فإذا أمعنا النظر في حادثة سدوم وعمورة نرى أن وجود بعض الأبرار فيها، لم يكن لرفع القصاص الأبدي عن الأشرار الذين كانوا معهم، أو ليمنحهم طبيعة روحية تهيِّئهم للتوافق مع اللّه في قداسته وصفاته الأخلاقية السامية إلى الأبد، بل كان ليرفع عنهم فقط قصاصاً وقتياً دنيوياً، وهذا من الممكن حدوثه كما ذكرنا في حديثنا عن الصلاة.

وواضح أن وجود الأبرار في العالم لا يحمي الأشرار من القصاص، إذا كان مكيال شرهم قد طفح أمام اللّه. فقد قال: إن أخطأت إليَّ أرض وخانَتْ خيانة، فمددتُ يدي عليها وكسرتُ لها قِوام الخبز وأرسلتُ عليها الجوع، وقطعتُ منها الإِنسان والحيوان، وكان فيها هؤلاء الرجال الثلاثة: نوح ودانيال وأيوب، فإنهم إنما يُخلِّصون أنفسهم (فحسب) ببرِّهم (حزقيال 14: 13 و14) .

وهكذا الحال من جهة الأبدية، فإنه ليس هناك قديس مهما كان شأنه، يستطيع أن ينقل، على أساس مكانته السامية لدى اللّه، خاطئاً من الهاوية إلى الفردوس. وكفى على ذلك دليلاً أن الرجل الغني الذي عاش على الأرض بعيداً عن اللّه، لما نادى وهو في الهاوية إبرهيم أبا المؤمنين: يا أبي إبرهيم، ارحمني وأرسِل لعازر ليبلّ طرف أصبعه بماء ويبرّد لساني لأني معذب في هذا اللهيب. فقال إبرهيم: يا ابني اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك، وكذلك لعازر البلايا، والآن هو يتعزى وأنت تتعذب. وفوق هذا كله بيننا وبينكم هُوَّة عظيمة قد أُثبتت، حتى أن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون، ولا الذين من هناك يجتازون إلينا (لوقا 16: 24-26) .

2 - إن كان القديسون خطاة بطبيعتهم وأعمالهم مثل غيرهم من الناس، فكيف غفر اللّه لهم وقربهم إليه كما نؤمن جميعاً؟.

الرد: لا شك أنه تم إيفاء مطالب عدالة اللّه وقداسته من جهتهم بوسيلة خاصة، من جانبه، وليست طبعاً من جانبهم، لأنهم لا يستطيعون بكل تقواهم وأعمالهم الصالحة أن يُعيدوا إلى حق اللّه كرامته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يُعتدَ عليه، أو يعيدوا إلى أنفسهم حياة الاستقامة التي كان عليها آدم قبل السقوط في الخطية. والوسيلة التي على أساسها خلّص اللّه هؤلاء القديسين من خطاياهم ونتائجها، هي التي على أساسها يخلص كل الخطاة في كل زمان ومكان (كما سيتضح من الأبواب الآتية) .

3 - إذا كان الأمر كذلك، ألا يوجد شفيع بيننا وبين اللّه؟.

الرد: نعم هناك شفيع ومحامٍ معيّن من عند اللّه، قادر على الوقوف بيننا وبينه، لأن هذا ما تتطلبه محبته لنا وعطفه علينا. لكن قبل أن نعرف من هو هذا الشفيع أو المحامي، لنسأل أنفسنا: إذا كان إنسان قد ارتكب خطايا أو خطية واحدة، وفي الوقت نفسه لم يعمل كل البر الذي أمر اللّه به، وكان بطبيعته عاجزاً عن الإحاطة بمطالب عدالة اللّه وقداسته التي لا حدّ لها، وبالتبعية كان عاجزاً عن إيفائها جميعاً، فهل يمكن أن يقبل اللّه شفاعته؟ طبعاً كلا.

وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن الجدير بالشفاعة يجب أن يكون شخصاً لم يعمل أية خطية على الإطلاق، وفي الوقت نفسه يكون كاملاً من جهة البر كل الكمال. كما يجب أن يكون قادراً على الإحاطة بمطالب عدالة اللّه وقداسته التي لا حدّ لها، وقادراً أيضاً على إيفائها جميعاً، بالدرجة التي تُرضي اللّه تماماً. فمن هو هذا الشخص يا ترى؟

للإِجابة على هذا السؤال، اقرأ الباب التالي بإمعان

  • عدد الزيارات: 1131